(21)
دخلت الجدة فاطمة على الشيخ صابر...كان يجلس مستندا إلى جذع نخلة في منتصف الخيمة... بانت على ملامحه تفاصيل العمر المديد شديدة العمق ...شديدة التأثير والتأثر بحزن وألم وأسى ملئ بياض عينيه وزحف على كل كيانه فبات كأنه قد ألم به الوهن والضعف
جلست بجواره ناظرة إليه وقد انتقل لها حزن عينيه وألمهما...قالت في صوت ضعيف حان:
- مالك يا شيخ صابر؟
صمت فترة ثم حلق ببصره نحو الأفق وتنهد تنهيدة حارة اعتصر لها قلبها
- لقد انتهى كل شيء يا فاطمة...كل العمر الذي كافحت فيه من أجل الحفاظ على إرث أجدادنا...لم يعد لشيء قيمة
- لا تفكر بهذا الشكل...لقد انتهى الأمر على خير...المهم هو ما سيأتي يا شيخ صابر فماحدث قد انتهى
- وماالذي سيأتي يا فاطمة؟
- مهرة وصخر وعالية...وغيرهم من شباب وبنات هذه القبيلة...هم القادمون ونحن الراحلون...
صمت الشيخ ومازال نظره معلق بالأفق ، امسكت الجدة بذراعه
- مهرة سترحل غدا وصخر سيرافقها حتى يطمأن على حياتها هناك ، وحتى..
صمتت مترددة...نظر لها : وحتى يزوجها من ذلك الفتى...اليس هذا ماتريدين قوله؟
- قال صخر أنه لن يوافق على هذه الزيجة حتى يطمأن أنها في مصلحة أخته ويطمأن للولد وأهله....هو يريد أن يتأكد أنها لن تحيا في المدينة بمفردها وستكون مع من يحميها ويرعاها....
أشاح الجد بوجهه وعلامات الأسى بادية عليه
- يا شيخ صابر لقد جاءت الفتاة تبحث عن أهلها بإرادتها...وكما علمت من صخر رفضت أن تجيب الشاب على طلبه بالزواج حتى يطلبها من أهلها ويوافقوا عليه...إنها ابنتنا الكريمة العزيزة ...إنا تنتمي لنا يا شيخ
نظر لها الشيخ بنفاذ صبر وقال بعصبية:
- ماذا تريدين أن تقولي يا فاطمة؟
ترددت قبل أن تجيب:
- هي تطمع في رضاك عنها قبل رحيلها...ومباركتك لزواجها...
نظر لها والغضب في كل قسماته
- ليست هي وحدها من تتمنى ذلك...أنا وصخر وعالية نتمنى ذلك يا شيخ....
أشاح بوجهه الغاضب وظل على صمته المحدق في الأفق وزادت قسماته حزنا وألما ...نظرت له وقد خالط نظراتها المتوسلة إصرار حازم
- لقد مضى وقت طويل منذ حادث عائشة يا شيخ....الا ترغب في تعويضها وتعويضنا عن الماضي
صاح بها
- كفى يا فاطمة...
حلق الصمت فوق رأسيهما فترة من الزمن...
حاربت ترددها في حسم:
- هل أخبرها أن تأتي؟
لم يرد...ظلت تنظر له فترة من الزمن ثم كأنها استوعبت بخبرتها معه أنها لن تحصل منه على رد مهما انتظرت ، وقفت والقت عليه نظرة أخيرة ثم خرجت في بطء حزين...
لا يدري الشيخ صابر كم مضى عليه في جلسته وحيدا فقد غاص في بحر من الذكريات ...كانت كلها تدور وتدور ثم تعود لتلك الملامح الرائقة الحزينة ...ملامح ابنته عائشة كما رءاها في آخر أيامها قبل أن تموت ، ثم بدأت تلك الملامح تختلط بصورة مهرة ووجهها الرقيق الجميل ، تلك العينان التي تحمل شجاعة وقوة وعزة وكرامة...تذكر كلمات أحمد عنها عندما جاء يطلبها ....إنها خليط من الصحراء والبحر....الأصل والمنشأ...هنا الجذور وهناك الحياة....هل يمكن أن يقلعها من جذورها...أم أن يمنعها عن الحياة...في كلتا الحالتين ستموت....ستموت كعائشة...سيفقد ابنته مرة أخرى...لا ، لايستطيع...لن يتحمل ذلك مرة أخرى، ولكن ماذا يستطيع أن يفعل...هو أيضا له كبرياء وعزة نفس تمنعه من إظهار الخضوع والتنازل عن كل مادافع عنه عمره وآمن به وكرس حياته من أجله...هل يمكن وهو قد أصبح في هذا العمر ، وهوالشيخ الجليل المهيب العزيز أن يرضخ ويزعن ويوافق على ما كان يحاربه ويرفضه طوال عمره....لا، هو أيضا لا يستطيع...لقد وقع في حيرة ...الن تلهمه الصحراء...الن يمنحه الله الحكمة ...أم هذه الحيرة الأن هي عقاب من السماء على كل الماضي...آآآآآآآآآآآه...
كان الظلام قد حل...أحس بشخص يجلس بجواره...أفاق من ذكرياته ونظر ...على ضوء النيران التي أضاءها الرجال في الساحة أبصر ملامحها...كانت تبتسم...
-جئت أودعك يا جدي...
لم يستطع أن يحول عينه عنها....أراد أن يحفظ لك الملامح التي فارقته أعواما قبل أن تغادر في الصباح ولا يدري كم سيطول به العمر ليراها من جديد...
حاولت أن تستخدم روح الفكاهه...زادت من ابتسامتها
- كنت أراهن الجميع أن أحدا منهم لن يستطيع أن يقنعك بتغيير رأيك وربحت منهم كل نقودهم...ولذلك جئت أشكرك لأنك لم تجعلني أخسر الرهان...
ظهرت الدهشة في عينه المتأملة ...خفضت رأسها
- ورغم ذلك كنت مستعدة أن أخسر كل نقودي ثمنا لذلك الإحساس الذي عشت عمري كله أبحث عنه ...احساس الأهل والأمان والحماية...
عصرت قلبه الكلمات...رفعت رأسها ونظرت له بعين حزينة ولكنها تبتسم
- لقد حاولت أن أتفهم ما فعلته مع أمي وأسامحك...على الأقل حافظت على حياتي ...أنا مدينة لك بذلك...
شعر بأنها لو تحدثت أكثر من ذلك فلن يتمكن من الحفاظ على شموخه أمامها...ستسقط دموعه ويظهر ضعفه وهو يأبى ذلك......أشاح بوجهه...وكأنها لمست ذلك الإحساس بقلبها...أو أن قلبها هي الأخرى يفكر بذات الطريقة...نظرت للساحة التي امتلئت بمقاعد الرجال حول النيران...
- سأغادر ليس لأني لا أريد الحياة معكم...ولكن هناك وعود قطعتها على نفسي ولن أستطيع خيانتها...ربما لولا هذه الوعود كنت فضلت الحياة معكم وعدم العودة....هل لو كنت في مكاني يا جدي وقطعت وعدا على نفسك هل كنت تخلفه؟
لم ينظر لها ولم يرد...ظل مشيحا بوجهه وبمشاعره المتصارعة بعيدا...نظرت لجانب وجهه
- لن ازعجك أكثر من هذا يا جدي...جئت فقط لأراك قبل أن أغادر ولأقول لك أني سأدعوا الله أن تحبني يوما وتضمني لصدرك وتبارك حياتي وزواجي...هذا كل ما أتمنى الآن وأرجو
انتظرت رده ولكنه لم يفعل...قامت في هدوء والدموع تنسال على وجهها في بطء...غادرت وتركته ينظر خلفها وقد ترك لدموعه العنان ...فليس هناك من يشهد ضعفه إلا نفسه...والله
-----------------
كان فرحا كبيرا.....أقاموه على شاطيء البحر بقرب الصخرة التي أعتاد أحمد ومهرة أن يتقابلوا عندها......
قرر أمجد ونهاد أن يقيما فرحهما في ذات اليوم......كان الكل حاضرا...دادة خديجة وأهل نهاد وأمجد وشهيرة ودكتور جمال ..وصخر أيضا....اقترب صخر من مهرة وقبلها في جبينها:
- مبروك يا مهرة..
- شكرا يا أخي.....كنت أتمنى أن يكون فرحك أنت وعالية في نفس اليوم..
- كل شيء بأوانه....
- لماذا لم تأتي معك؟
- لا يصح أن تأتي معي ولم نتزوج بعد......
- عندك حق..
صمتت وأطرقت قليلا ثم قالت: وجدي؟
ربت على كتفها: الوقت كفيل بكل شيء يا مهرة...اصبري....الجدة فاطمة تبلغك تهانيها ...قالت لي أنها تشعر بأنه قد تغير في أعماقه ولكنه يقاوم الإعتراف..
رفعت عينها فوقع بصرها على أحمد وأمه ووالده يقفون معا يضحكون ويبتسمون......همست: نعم الوقت كفيل بكل شيء ولكن لا ضير من المحاولات بين الوقت والآخر......
نظر أحمد نحوها ورآها تنظر نحوه فبعث لها قبله في الهواء......
ابتسمت وظهر الخجل عليها.....
أقبل أمجد ونهاد : ماذا تفعلون.....هل نحن في ميتم لا قدر الله....اليس هذا فرح؟
ضحكت مهرة: ماذا تريدون؟
- نريد أن نرقص ونقفز ونضحك ونغني....أين زوجك المزعوم
- مع أمه وأبيه
- احترسي يا مهرة...يبدو أن صلح أحمد وأمه سيتحول ضدك.....ستكون لك حماة...
فاجأتها شهيرة من خلفها وهي تبتسم : من ستكون حماة يا نهاد ؟
ارتبكت نهاد فضحكت شهيرة وهي تضم مهرة: إنها ابنتي الحبيبة...وأنا أمها..
أقبل المصور : ليجتمع الجميع العرسان والأهل والأصدقاء ..سنأخذ صورة جماعية على البحر
تجمع الجميع......وانطلقت فلاشات الكاميرا تسجل اللحظة
-------
قال المصور: سنأخذ صورة أخرى غيروا أماكنكم من فضلكم
بدأ الجميع يتحرك في منتصف الساحة الواسعة وسط البيوت يتبادلون أماكنهم حول العريس والعروس...كان فرح صخر وعالية......وكان الجميع حاضرا.......وقفت مهرة وهي تحمل طفلتها بجوار جدها.....نظر الجد للطفلة الصغيرة: -- اسمها عائشة يا جدي....
ابتسمت الصغيرة للجد وداعبت لحيته ...ابتسم لها....سطع الفلاش يسجل اللحظة......
----
من بعيد كانت تقف......لمحتها مهرة وعرفتها...تركت الطفلة مع الجد وذهبت لها..
- قمر؟...لقد مر وقت طويل..
- مبروك...
مدت يدها بشيء ملفوف في قماشة.....أمسكته مهرة:
- ما هذا؟
- إنه يخصك....لا تفتحيه حتى أمضي....
بعد أن غابت عن نظرها فتحت القماش فسطع لون أحمر براق......
شهقت مهرة وتساقطت الدموع من عينها.....اقترب منها أحمد: ماذا حدث؟
لم تنطق أشارت فقط للعقد والدموع تنهمر من عينها
- كيف وجدتيه؟
نظرت مهرة للظلام الدامس الذي شمل الأفق المترامي أمامها....
----------------
كان ينتظرها على مسافة قريبة.....
- هل سلمتها الأمانة؟
- نعم....وأعطيت لأم حسان النقود
- هيا بنا....
سار جعفر وقمر معا متجهيين نحو الواحة ....مرا على البيت الخشبي.....توقف جعفر ونظر للبيت ثم مضيا
------------------------
- قمر.....هذا غير مفهوم...
قال صخر وهو يتأمل العقد الذي ما إن رأته الجدة فاطمة حتى إنهارت في البكاء......
- هناك ورقة في القماش
قالت عالية وهي تمسك الورقة وتفتحها
- الحق لابد أن يعود لصاحب الحق....
دهشت مهرة: مامعنى هذا؟
قال صخر:يبدو أن جعفر قرر أن يكفر عن ذنوبه وذنوب حسان...هذه ليست الحادثة الأولى لقد عوض الكثيرين من الذين أخذ حسان حقوقهم...ويعطي لأم حسان نقودا...
قالت عالية: هذا هو الغريب في الأمر فمن أين له بالنقود؟
- وما علاقته بقمر؟
نظر صخر لجده بخبث
- جدي يعرف ولكنه يرفض أن يقول
نظرالجميع للجد الذي كان يحمل عائشة ويداعبها ولكنه تجاهل ما يقوله صخر وتجاهل نظراتهم
نهض الشيخ وهو يحمل الطفلة وسار بها نحو خيمته
- اتركيها معي يا مهرة وخذيها في الصباح..خذ زوجتك وادخل بها يا صخر....تصبحون على خير....
تابعته العيون بدهشة وتبادل صخر وأحمد النظرات واحتضنت الجدة فاطمة مهرة التي ظلت تنظر للجد وهو يمضي مع عائشة وارتسمت نظرات صامته على وجهها ودموع متجمعة في الحدقتين..
سار صخر وعالية نحو بيتهما وعادت الدفوف تدق والزغاريد تنطلق....وأصوات الأعيرة النارية تملئ الفضاء....
-------------------------------
قضى ليلتهما في البيت الخشبي... نظرت مهرة عبر النافذة للقمر في صفحة السماء.....تخيلت وجه أبيها...ابتسمت له: تصبح على خير ياأبي...
قبل أن تعود لفراشها تخيلت وجها وسط النجوم يرنو لها...فركت عينها.....لم تكن تتخيل...كانت ملامح رقيقة تنظر لها وتبتسم وقد غطت شعرها الكستنائي بشال من الصوف....همست مهرة: أمي....
تمت
بدأت في كتابة الرواية في२००३ وانتهيت منها في التاسع عشر من أكتوبر 2008