الأربعاء، ١٥ أكتوبر ٢٠٠٨

تابع(البيت الخشبي)

(4) في المرسم جلس يراقبها وهي ترسم.......تقف في بنطلونها الجينز الفضفاض والقميص المشمر الأكمام ، تتدلى ضفيرتها الطويلة خلفها...... - ماذا ترسمين!!!! تبتسم:(هدى)....قررت أن أدخل بهذه اللوحة مسابقة المحافظة لهذا العام...... يقترب منها وهو ينظر حوله: ولماذا الأزرق والأصفر بالذات......كل لوحاتك تحمل اللونين بغزارة. تنظر له: أعشقهما مجتمعين ، لون البحر ولون الصحراء، اللاحدود والأفق المترامي يخفي خلفه الغموض ويحمل بين طياته كل المتناقضات ، اللاإستقرار ، اللاثبات والتغيير اللامتناهي في الأشكال ، أشكال الموجات، أشكال الكثبان، ولكن العمق يحمل الحقيقة الثابتة مهما تغيرت الأشكال. أراهما دائماً لونين منفصلين مجتمعين، لا يطغى أي منهما على حقيقة الآخر فكلاهما مستقل بخصائصة وذاته اللونية المميزة ، ولكن في وجودهما معاً قوة تجعل كلاً منهما ظاهراً جلياً . نظر لها في دهشة وإعجاب وابتسم..... .....يشعر بها تقترب من عقله كلما إقترب منها... - وهذه الفلسفة اللونية.....كيف تعلمتيها؟!! - كنت أراقب أبي وهو يرسم....... أشارت للوحات المعلقة والمنتشرة في الأرجاء بعيداً عن ركنها المنزوي..... - كل هذه اللوحات قام برسمها....... سرحت قليلاً ..... يراقب ملامحها الشاردة ........ -عالمي الوحيد كان أبي......عشت معه تلك الأحاسيس التي لا يوجد لها بديل......الحب المطلق ..الثقة المطلقة الحماية المطلقة ...الأمان المطلق..... ثلاثة عشر عاماً لا أعرف غيره قريب أو صديق .....دخلت معه عالمه الخاص .....الألوان ....البحر .....الصمت والتأمل.....ظننت يوماً أني أعرف كل شيء ......نفسي ، أبي.......بعد أن مات جلست وحيدة...قلت أحاول إقناع نفسي : ستسير الحياة.....لا شيء خطير قد تغير.....سأعيش ... كان يتابع ملامحها.....إهتزازات رموشها الخفيفة ....توترات شفتيها.....مرت أمامه متجه للنافذة ....البحر هناك يناديها.....بعد فترة صمت همس صوتها خفيفاً حزيناً : مر عام كالضباب .....أتخبط في كل شيء.....مدرسة جديدة ، أصدقاء مختلفون ، عالم جديد أدخله وحيدة في المدرسة الثانوية ......لاأدري كيف مر العام.....كأني فقدت الوعي .....ولكني استمر في المكابرة :..... لا شيء تغير.....سأعيش وأنجح...... على الشاطيء كانا يسيران ......الأمواج مازالت تضرب الصخور ....وقفت تتأملها..... سألها: متى أفقت من الغيبوبة؟..... نظرت في عينيه : عندما أحببت...... .....جلست على الرمال : - تعرفت على علاء خلال تلك الفترة.....الغيبوبة.....كان هو كل شيء أحتاج إليه وقتها.....الأمل.... إتجهت إليه بعقلي اللاواعي أبحث كالغريق عن طوق النجاة.....ثم.... صمتت......نظر لها من فوق قامته الشاهقة: ثم؟...... - مرت سنتين واكتشفت الحقيقة بعد أن عاد لي التوازن.....أني أحببت كياناً خلقه خيالي ولم يكن له أي وجود في الواقع.....مأساتي خلقت من علاء شخصاً خيالياً بعيد عن الواقع ، تصورت فيه أبي ....لست نادمة، أظنني كنت أحتاج هذا الوهم لأقوى به......ثم وجدت الحقيقة....أنه لا شيء ..... أكتشفت أنه لم يصعد بي من الهوة ولكني صعدت بنفسي ....منذ ذلك اليوم الذي تأكدت فيه من هذا الإكتشاف أحاول التعامل مع واقعي بشكل مختلف....أعترف بما فيه وأحاول أن أواجهه دون هروب.. جلس بجوارها ينظر في عينيها....اكملت : لا تظن أني قوية.....فقط أكره الضعف.....وأكره الأوهام....وأحاول التعرف على نفسي أكثر .... نظرت في عينه : هل أحببت يوماً ؟ - لا... - حقاً؟ - نعم. - لماذا؟ نظر إليها وقد سرح طويلاً في صمت ...هي تتأمل صمته وتحاول أن تنفذ من عينيه لتقرأ ما يدور بقلبه.... - في روايتك تفتقد البطلة لإحساس الأمان ،لا تدري تعريفا ًلذاتها ولا تدرك معنى نفسها ، هذا تماماً ما أشعر به.... ينظر لها في حنان....تدير وجهها تجاه البحر... - أفتقد أبي...أتمنى لو يعود...كثيراً ما أحلم به عائداً من سفره الطويل وأنا أجري لألقي بنفسي بين ذراعيه وقد شملتني الراحة والسعادة....ولكني أستيقظ من حلمي على الواقع....أحاول التعامل مع هذا الواقع --------مرت بضعة شهور وكان الأصدقاء (أحمد وأمجد ومهرة ونهاد) كثيراً ما يتقابلون ، تضمهم مناقشة حول موضوع أدبي أو فكرة ما أو يتجولون في أنحاء المدينة أو ينطلقون إلى البحر. وكان أحمد يجلس مع صديقه أمجد في المقهى الثقافي ذات يوم.... - أحمد....أريد أن أتقدم لطلب يد نهاد...هل توافق؟ نظر له أحمد في دهشة... - نهاد؟....لماذا؟ - لماذا؟...أمرك غريب....أريد أن أتزوجها... - أعلم أنك تريد أن تتزوجها ولكن لماذا؟ - لأني أحبها...لأنها الفتاة الوحيدة التي أتمنى أن أكمل معها مشواري ، ولأنها... - فهمت....ولكن هل أنت متأكد مما تقول... - أكيد.... - وهل نهاد رأيها مثلك؟ - بالطبع حاولت التأكد من رأيها قبل مفاتحتك في الأمر، ولكن إبنة عمك فتاة صعبة جداً لم تمنحني جواباً صريحاً ولكن إحساسي يخبرني أنها ستوافق..... صمت أحمد ونظر للبحر.... - ما رأيك.... - سأتحدث مع نهاد أولاً ... نهض أحمد وسار مبتعداً .... على الرغم من الصلة القوية بينهما وعدم وجود حواجز من خجل أو حرج تفصلهما إلا أن نهاد أصابها الإرتباك والخجل ولم تدري ما تقول عندما واجهها أحمد مباشرة برغبة أمجد في الإرتباط بها... - لم أعرف رأيك بعد يا نهاد... من بين خجلها وإرتباكها خرج صوتها.... -أنا أتعامل معه كصديق وهو شاب ناجح كطبيب وعنده حس الفنان الذي أحمله....وهو صديقك الذي تعرفه أكثر مني وتثق فيه...إذا وافقت أنت تكون نصف موافقتي.. - والنصف الآخر... - أحتاج لوقت لأتعرف عليه أكثر وأفكر.... صمت أحمد ونظر لها مبتسماً .... - كنت أخشى أن تندفعي في الموافقة على طلب أمجد بالزواج دون أن تعطي نفسك فرصة للتفكير وأن تغلبك مشاعرك...أعلم أن أمجد شخص ممتاز ولكن الزواج شيء مختلف ويحتاج لتفكير وتأكد تام...لاأريدك أن تندمي يوماً على إختيارك....ولا أريد أن تدخلي حياة دون التأكد من أنها ستكون حياة ممتدة ومستمرة....لأنها لن تكون حياتك أنت فقط بل حياة أولادك أيضاً . نظرت نهاد في عينيه....نسيت خجلها وإرتباكها...نسيت طلب أمجد للزواج منها....حديث أحمد نقلها لإحساسه هو... تجربته الخاصة التي لم تستطع السنين مساعدته للتغلب على مرارتها...كانت تحاول دائماً أن تضع نفسها في مكانه وتتخيل أن أمها قد تركتهم....كانت ستشعر بنفس الشعور وكان نفس الغضب والمرارة والحزن سيعصف بها...هكذا فكرت-------جاءت دادة خديجة تعلن قدومه .....دخل المرسم صامتاً .....ملامحه تحمل لا شيء..... داعبته بفرشاتها: ماذا؟....... صمت طويلاً ......تحدث كأنه يتكلم إلى نفسه: كيف كانت أمك؟ تركت الفرشاة وجلست تعبث بضفيرتها.....: هل تعلم لماذا أقضي في هذا المكان وبين هذه اللوحات كل هذا الوقت....أحاول الأقتراب من عالم أبي لأجيب عن أسئلة كثيرة بلا تفسير......كل هذا الحزن الذي كان مسيطراً عليه.....موته فجأة .......أمي التي لا أعرف عنها شيئاً ولم يحدثني يوماً بشأنها.....أنا أبحث عن أبي الذي أجهله ........لا أصدق أنه مات دون أن أعرف عنه أكثر من كونه أبي..... - لقد كنت صغيرة..... تنظر في عينه مباشرة ، تضمهما النظرات للحظات ثم تنهض وتخرج لبرهة وعندما تعود يرى في يدها عقداً من العقيق الأحمر المحاط بإطار من الفضة المشغولة.... - ما رأيك؟؟؟ - رائع.. - إنه ملك لأمي......هذا كل ما أملكه منها..... أمسك العقد.....صمت طويلاً وهي تتأمله في حنان.....تشعر بشيء يحمله في نفسه....شيء ثقيل ..... - لماذا سألتني عنها؟..... - أفتقد أمي... - هل ماتت؟ - بل طلبت الطلاق من أبي وتركتنا ورحلت منذ سنين......تخلت عني.....والآن تريد أن تراني... صدمتها الكلمات......لم تتصوره أبداً في مشكلة.........تذكرت تلك السيدة في الندوة...وكأنها فهمت كل شيء دفعة واحدة.....صمتت لم تجد ما تقوله.....حكى لها كل شيء حدثها عن موقف أمه ...عن مشاعره الغاضبة منها....عدم قدرته على التواصل معها....إحتياجه لها........ذلك الشعور الذي يجتاح نفسه في لحظات برغبة تشده لمحاولة رؤيتها ولكن الغضب يقتله ... إستمعت له بقلبها وعقلها معاً ...كانت تتألم من أجله ولكن كان هناك إحساس آخر مناقض للألم يسرى بداخلها... لقد قطع حاجز صمته وفتح لها الأبواب ...أبواب نفسه------كانت عائدة مع نهاد من الكلية عندما تطرق الحديث عن أمجد... - هل قررتم إعلان الخطوبة؟ - ستكون مجرد جلسة عائلية وسنلبس الدبل...لا تقلقي سأعزمك...بالنسبة لي هذه موافقة مبدئية مني على إرتباطي بأمجد وستكون فترة الخطوبة فرصة للتأكد من مشاعري قبل إعلان الزواج...كما أنه مازال أمامي سنتين لأنهي دراستي . - هل أبيك موافق على هذا القرار؟ - بالتأكيد..لم يكن مقتنعاً في البداية بمسألة موافقة مبدئية ونهائية هذه ولكن أحمد ساعدني في إقناعه فهو من يشجعني على التأكد من مشاعري قبل الإقدام على خطوة الزواج. - أحمد متأثر بتجربته الخاصة. نظرت لها نهاد في دهشة.... - هل أخبرك؟ - نعم.... - غريبة....أحمد لا يتحدث في هذا الأمر بسهولة... - هل حاولت من قبل مساعدته للتصالح مع أمه. - لا.... لم ألومه يوماً على مقاطعته لأمه أو موقفه منها ولم أحاول يوماً أن أغير من موقفه تجاهها.... أرى أنها تستحق بعده عنها... - ولكنني أرى الموقف بنظرة أخرى....إن كنت تظنين أن الأم هي من كانت تنال العقاب وحدها فأنت مخطأة ....ما حدث من قطيعة بينهما طوال تلك السنوات كان كالعقاب بالنسبة لأحمد....عقاب على ذنب لم يقترفه ولكنه أثر على حياته كلها .... نظرت لها نهاد وكأنها أخيراً أكتشفت شيئاً كان غائباً عن عقلها ولم تكن تتصوره.------ كانا يسيران على البحر وقت الغروب....قالت: لا أعرف عن أمي شيئاً ، تنميت لو كان لي أم تعيش معي أو على الأقل تحيا في هذه الدنيا . قد أدفع ما تبقى لي من عمر ثمناً لو كان تحقيق هذه الأمنية متاحاً ، وأنت......أمك تحيا وتعرفها جيداً وتستطيع الذهاب لها في أي وقت والحديث معها ولكنك ترفضها على الرغم من محاولاتها الكثيرة لتراك وتتحدث معك. لقد أختارت حياتها.....أنت أيضاً يجب أن تختار حياتك .....ما تفعله الآن ليس أختياراً ولكنه رد فعل إختيارها.... أنت تحتاجها وإن أنكرت ، ويجب أن تذهب لها........إنها أمك يا أحمد لا تهجرها .....يجب أن تذهب لها......... نظر في عينها.....إنه فعلاً يحتاج أمه....لايدري لماذا يلح عليه هذا الشعور الآن....كل الذكريات التي تصور أنه فقدها مع السنين عادت له دفعة واحدة بمجرد أن رآها في الندوة....ولكن هناك ذلك الحاجز بداخله...حاجز من الغضب لم ينتهي بعد..مرارة مازالت في حلقه...حزن يحمله منذ سنين... وكأنها قرأت صفحة نفسه...إبتسمت ... - واجهها ...إلقي بكل ما في داخلك...صارحها بكل مشاعرك ...إفتح لها قلبك لترى ما به من ألم وجرح ... ثم إعطها فرصة لتزيل كل ذلك وتمنحك كل الحب والدفء والحنان...لن تخسر شيئاً إذا حاولت ولكنك إذا نجحت قد تكسب أمك من جديد.... مازال ينظر في عينها العسلية وإبتسامتها الهادئة وكلماتها المليئة بالأمل تنزل على قلبه سلاما ً.... غابت نظرتها قليلاً ثم عادت.. - لو إستطعت أن أفعل أي شيء ليعود أبي أو أعرف عن أمي ما ترددت...لا تتردد.

0 comments:

 
template by suckmylolly.com flower brushes by gvalkyrie.deviantart.com