(6)
يتطلع من النافذة للطريق وهو يجرى بجواره مسرعاً متحركاً بكل أشكاله للخلف بينما تنطلق به تلك الحافلة على ذلك الإسفلت الساخن الذى يتوهج بحرارة الشمس ويتراقص عليه السراب كأنه بحيرة ماءٍ صافٍ تشد الطريق إليها بلا نهاية .. الهواء الساخن يلفح وجهه ويتلاعب بشعره و يلقى ببعض ما يحمله من ذرات أتربة حول وداخل عينيه ولكنه لا يغلق النافذة،فقط يظل ينظر من خلالها على الأشياء المتحركة فى سرعة وقسمات وجهه ساكنة هادئة وبين لحظة وأخرى يغمض عينيه قليلاً فى هدوء ثم يعود ليفتحهما متابعاً الطريق
نفسه تتصارع ..
ذكرياتٌ طفلةٌ تسترسل متواترة على ذهنه ،ذكريات حلوة ناعمة شفافة تمس أعمق ما يمكن أن تصل له بداخل روحه مساً كالحلم يملىء نفسه بأحاسيس الأماني... لو أن الماضي يتردد عائداً وتتقلص كل تلك المساحة الفاصلة فتصيرعدماً لا وجود لها في كتاب تاريخه الخاص .....
ولكن....الحلم يتناثر على جانبي الطريق حينما تمر به عربة الواقع فتدهس بعجلاتها القاسية كل شيء، عربة يطل منها وجه لا يبالي...وتمتد منها يد لا تستجيب لنداء محتاج ...وتشع منها روح نفس تحلق في سماء ذاتها فتصير بالنسبة لهذه الذات كل المضمون ويصير كل ما سواها هوامش على جانب الصفحة....
كان هذا هو الصراع القائم في أعماق ذاته ويظهر واضحاً أثره على ملامحه الشاردة المتقلصة بين ألم وحنين ، وفي عينه المتردد لمعانها بين سعادة باللقاء، ودموع غاضبة عاصية .....لقاء الطفل الصغير بالحضن الدافء واليد الحانية تمسح على جسده فتحمل عنه كل أدران الزمان من هموم وخوف وقلق ...ثم أحاسيس التخلي التي عاش معها سنوات وواجهها بكل تجاهل ،بصمود وتحدي ورغبة في إثبات عدم حاجته لكل الحنان،كل الدفء، كل الحب الآمن الغزير الذي كان ينعم به يوماً ثم فقده في قسوة لا يستطيع نسيان مرارتها بداخل نفسه المعصورة ......
لقد قرر أن يذهب لزيارة أمه ....كان يحتاج الشجاعة...مرض مهرة...إحساسه بأنه قد يفقدها ،رغبته القوية التي تولدت أن يصارحها ...ولكن قبل ذلك يجب أن يضمد تلك الجراح بداخله....لن يتمكن من الإقتراب من مهرة الحبيبة قبل أن يكسر ذلك الحاجز...تذكر حواره مع دادة خديجة...كان يريد أن يكون لمهرة ما تحتاجه...
يتمنى من كل نفسه أن يزيل تلك الحيرة وذلك القلق من عينها....أن يضمها ويمنحها كل الحب والحماية والأمان....أن يكون هو كل أهلها ويعوضها عن كل شيء......تنبه لنفسه من أفكاره والحافلة تقترب من محطة الوصول ...وتنبه أيضاً لتلك المفارقة ....هو يحتاج لتلك الأحاسيس أيضاً :الحب والحماية والأمان...لقد منحه والده الكثير ولكنه يشعر بها غير مكتملة،هناك شيء مفقود...أمه....وجودها كانت تكتمل به كل الأشياء...
وصلت الحافلة .....نزل .....سار وسط الزحام .....قلبه يرتجف بالأحاسيس......
ضغط على جرس الباب ......أتاه صوت الجرس يتردد.....ثواني لم تمضي إلا والباب قد فتح وظهرت على عتبته.....ترتدي نظارتها وذلك الروب الطويل وتضم شعرها الأحمر خلف رأسها.
نظرات الدهشة والفرحة ممزوجة في عينها وقسمات وجهها.....ضمته إليها في صيحة فرحة طويلة....تنهيدة حارة تنطلق من صدرها وتلفح مع أنفاسها عنقه ووجهه ......شدته من يده للداخل وأغلقت الباب وكل خلية فيها تهتف بأسمه: أحمد حبيبي.........
يدها تدور على وجهه تتلمس تلك الملامح التي كبرت بعيداً عنها .....كان يقف في مواجهتها جامداً رغماً عنه في كل شيء ......في ملامحه،إنفعالاته،أحاسيسه المرسومة .....ولكن داخل نفسه حيرة تمزقه.....هل يرتمي في حضنها الواسع الذي إشتاق له كثيراً وتمنى ليال كثيرة لو يضمه ليذهب عنه بعض ما به من ألم وحيرة ،أم يبعدها عنه ويبتعد بعيداً رافضاً بكل غضبه وثورته مجرد ملامسة يدها ليده......
ركن من عقله يتذكر تلك الأيام القديمة حين كان طفلاً صغيراً يلعب حولها وهي تحميه وتلاعبه،وركن آخر يتذكر ذلك اليوم الذي قررت فيه بكل قسوة أن تتركه وتترك كل شيء دون تراجع.....
سعادتها الغامرة برؤيته بدأت في الخفوت رويداً ......قلبها يخبرها أنه لم يعد لها بعد.....ربما هو هنا أمامها ولكنه مازال بعيداً ......
ابتسمت في حنان وهي تمسح على وجهه:
دعوت الله اليوم أن أراك......
أبتعدت عنه قليلاً : مضت مدة طويلة.........
تفحصته بنظرها طويلاً : ولكنك هنا الآن....
جلست على الكرسي أمامه.....: هل ستحكي لي عن هذه السنوات...
- تريدين حقاً أن تعرفي.
- أنا أعرف عنك كل شيء....ولكني أرغب أن أسمعك تتحدث .
نظر لعينها...هو أيضاً يحمل نفس العينين...وأنفها أيضاً ....ولون شعرها قبل أن تصبغه....ظل على صمته الكلمات لا تجد طريقاً إلى شفتيه ، لا يدري ما يقول هل يخبرها كم تألم من بعدها عنه وكم يشتاق لها ولتلك الأيام القديمة أم يطلق لغضبه العنان ويحاسبها على قرارها ويطلب منها تبريراً مقنعاً لكل ما حدث يقنعه بأن الأم يمكن أن تتخلى عن طفلها وأن الأبن يعيش بعيداً عن أمه.....
كانت تنظر له تنتظر الكلمات وعندما طال الصمت أصرت أن تخرجه منه...
- عندما جاءتني الدعوة لحضور الندوة لم أصدق نفسي ،تصورت أنك من بعث بها....قرأت روايتك كلها ولم أتمالك نفسي من البكاء....كنت أحب قراءة موضوعات الإنشاء التي تكتبها عندما كنت في المدرسة،هل تذكر تلك القصة الصغيرة التي كتبتها عندما كنت في التاسعة من عمرك.....كانت أول ما كتبت في المدرسة من قصص ويومها دخلت من باب البيت والفرحة تملأك وتصيح : ماما لقد كتبت قصة.....
كانت تتأمل ملامحه الأثيرة وهي تحكي وتتذكر تلك الملامح الطفلة التي كانت ،لا تختلف كثيراً عن ماتراه الآن ولكن ما يختلف حقا ًهو ذلك الكيان وراء تلك الملامح،كيان غريب عنها لا تشعر معه بذلك الدفء القديم وتلك الحميمية التي كانت ....عيناها تحمل أسى عميق ......قامت وقفت خلف كرسيه،وضعت يدها بحنان على كتفه:
تعال معي يا أحمد.....أريد أن أريك شيئاً ...
قام معها ،دخلت غرفتها وفتحت الدولاب الكبير،أخرجت صندوقا ًيحتوي على الكثير من الأشياء القديمة،وسط الأوراق أخرجت ورقة مطوية....قرأت:
كان زرزور طائراً صغيراً أحمر الريش يعيش في الغابة ويصادق كل حيواناتها وفي يوم كان الأسد مريضاً وذهب زرزور إليه ليطمأن على صحته......
توقفت عن القراءة،نظرت له ولمحت في عينه ذلك البريق .....بريق تلك الأيام الجميلة.....
سمع تلك السطور وتذكر ذلك اليوم،طاف به أطياف ملونة قادمة من عمق الماضي الذي يحتل مكاناً من نفسه ظن أنه قد نسيه أو تاه عنه......تذكرها بنظارتها وشعرها الأسود المعقوص خلف رأسها وهي تجلس بجواره مستمتعة كطفلة صغيرة بتلك القصة التي كتبها ....صفقت له كثيراً وضمته لصدرها وهي تناديه بكاتبها الصغير...كانت تتفاخر أمام الجميع به وبموهبته الفطرية وتشتري له الأقلام الملونة الجميلة والأوراق ذات السطور الحمراء والزرقاء ليكتب عليها كيف يشاء وتنتظره كل ليلة ليقص عليها ما كتبه في ذلك اليوم قبل النوم .....
تذكرها عندما كانت تحكي له صغيراً قصص الأطفال المثيرة عن عروس البحر والأقزام والساحرة وست الحسن .......صوتها الرخيم الهاديء يسري في أعصابه مسرى السحر فينقله لعوالم بعيدة ساحرة يحلم بها كلما غلبه النوم ......
- هل نسيت زرزور يا أحمد أم مازلت تتذكره؟
أخرجته من ذكرياته بصوتها الهاديء .....نظر في عمق عينها......صرخة بداخله يود لو تنطلق ....سؤال غاضب يتردد......لماذا؟
وكأنها قرأت السؤال في عينه.....مسحت على شعره بحنان وأسى : فجأة أجد تلك الأأخرج ما بداخلك يا أحمد.....تكلم وقل كل شيء .....كنت أعلم أن هذا اليوم سيأتي وإنتظرته طويلاً .....
بكل غضبه وثورته صاح فيها: لماذا؟ ......لماذا ؟......
قامت من جلستها ودارت في الغرفة: لا أدري هل ستفهم؟....سأخبرك على كل حال.....
نظر لها والغضب يملأ عينه: أعرف ما حدث جيداً ولا أحتاج لسماعه مرة أخرى ....ما أريد أن أعرفه هو كيف كنت بهذه الأنانية ....منتهى الأنانية ،تتركيني..تتخلي عني من أجل طموحك ونجاحك .....أي ثمن كان يستحق أن تتخلي عني ؟
إلتفتت له في حدة: أحمد.....
ثم هدأت ملامحها وأقتربت منه: لم أتخلى عنك....لقد كان شرطه أن تعيش معه ،كنت أرغب أن تظل معي بكل كياني و قلت لأبيك أن إختيارك هو القول الحاسم ولم أكن أتصور أن تختار الحياة بعيداً عني .....لا تدري ماذا فعل بي قرارك هذا.....لقد طعنني في قلبي ورغم ذلك لم أنساك أبداً وكنت على إتصال دائم بك وأعرف أخبارك ...لم أتخلى عنك وكنت دائماً معك ولكنك بدأت تكبر وبدأت تبتعد وتهجر ، تعاقبني ....تعاقب أمك؟!!!!
أعطاها ظهره وملامحه تحمل نفس الغضب الثائر: كنت أحاول أن أحافظ على أسرتنا التي دمرتيها ،تصورت أني لو تمسكت بالحياة مع أبي إذا حدث الطلاق فإنك ستتراجعين...ولكنك لم تفعلي....
أدارته نحوها وهي تبتسم في حزنها:
- نحن بشر يا بني والبشر أحاسيس وأفكار أحلام وأهداف ....لا تستطيع أن تمنع إنسان من مشاعره أو أفكاره ولا تستطيع أن تطلب منه التخلي عن أحلامه أو أهدافه ، لو فعل فلن يستطيع الحياة،سيموت .....ماذا كان سيفيدك لو عشت معك ميتة .....لقد حاولت وصدقني كنت أستطيع أن أكون أمك وأكون نفسي في ذات الوقت ولكن لم يعطني أبيك الفرصة....كان يريد مني دوراً واحداً فقط ولم أستطع تحقيق ذلك.....فكرت أنني أستطيع القيام بنفس الأدوار إذا تركته ولم أتخيل ولو للحظة أن أتعمد إيذاءك.....لم أفكر قط أن أتركك...
أحست بأن مشاعره الغاضبة مازالت تملكه :
لن تفهم ما أعنيه إلا إذا عشت موقفاً مشابه.....ربما إذا احببت يوماً وتعارضت أهدافك في الحياة مع من تحب، عندها ستكون في موقف إختيار ......ترى ماذا سيكون قرارك يا بني؟!!!!
خرجت منه الكلمات مريرة متألمة وعيناه تلمع من دموعها العاصية:
- أنت لن تفهمي ما مررت به طوال تلك السنوات...ذلك الإحساس القاتل الذي عشته....أمي ...تلك التي لم أكن أتصور حياتي بدونها ....وأسرتنا....ذلك الكيان الذي عشت فيه عمراً ولم أتصور يوماً أن ينهار وينهار معه كل ثقتي في أشياء كثيرة كنت أؤمن بها....
فجأة أجد تلك الأم وقد قررت الرحيل وتتهدد أسرتنا بالتفكك....وتصورت للحظة أنني أستطيع منع ذلك ولكن وجدت تلك السيدة التي أحببتها دوماً وفضلتها على كل العالم من حولي لا تعبأ ببعدي عنها وتصر على ما قررته لتنطلق في حياتها تحقق تلك الأحلام التي حرمت منها.....
منتهى الأنانية ....ظننتي أنك تستطيعين أن تحلي المعادلة الصعبة...تحققي أحلامك ونجاحاتك الخاصة وتظلي في ذات الوقت محتفظة بأبنك الذي هجرته من أجل هذه الأحلام.....منتهى الأنانية.....
...لولا أبي لكنت فقدت كل إحساس بالأمان ولضاع مستقبلي بسبب هذا القرار الذي صممت على تنفيذه....لم يكن لك أي دور في نجاحي حتى هذه اللحظة..
لم يمنحني وجودك في الحياة أي إحساس بالأمان فقد فقدت كل ثقة فيك وكل ثقة في تلك المشاعر التي يمكن أن تجمع بيننا كأم وأبنها....
هل تعلمين أنني مررت بفترة فقدت الثقة في كل معنى نبيل....الوفاء والتضحية والحب ....
لولا أبي ومثابرته معي لكنت ضعت....لولا أصدقاء أوفياء وقفوا بجواري دون أن يعلموا بمصيبتي ومنحوني معنى للحياة...
أين كنت طوال تلك السنوات ...في كل موقف كان يمر بي أحتاج فيه لمن يساندني ومن يفهمني ومن يعطيني النصيحة ....كنت مشغولة بتحقيق ذاتك والنهوض بإسمك والوصول به لعالم الشهرة ومصاف المرموقين...
- كنت أتصل بك بإستمرار ولم تمنحني الفرصة ل...
- أمنحك الفرصة....أي فرصة...لتؤدي دور الأم الذي ضحيت به...لترضي ضميرك الذي ربما أتعبك بعد تخليك عني....لتثبتي لنفسك أنك لم تخطأي ....لا لقد أخطأت...أخطأت في حقي....وماذا كان الثمن؟...هل كان يستحق...بالتأكيد...لقد أصبحت أشهر من النار على العلم كما يقولون....ولكن يا ترى هل حققت كل ما كنت تتمنينه ...هل أنت سعيدة...هل كان الثمن يعادل ما ضحيت من أجله....
- أنت قاس يا بني..
- قاسي....وأنت ماذا كنت.....ضحية قسوتي...أنت تعكسين الأدوار....ولو كنت قاسي فقد تعلمت القسوة منك..
لا تتصوري أن قلبي قد يتسامح بسهولة فجرحه غائر...
- غريبة...تصورت عندما رأيتك تقف على الباب أن قلبك قد تغير....لم تزرني من قبل ولذلك ظننت أن هذه المرة تحمل شيئاً من الأمل.....ولكن تلك القسوة في كلامك تجعلني لا أفهمك....
لماذا جئت يا أحمد؟....هل كلفت نفسك كل هذا المشوار يا بني لتسمعني هذا الكلام ثم تمضي...
لماذا جئت.؟
تذكر أحمد مهرة....قذف وجهها أمامه...لقد جاء من أجلها....تصور أنه يستطيع التغلب على كل ما بداخله وأن يفتح صفحة جديدة من حياته مع أمه...تصور أنه يستطيع أن يلقي بكل ما في قلبه ثم ينتهي كل شيء كأن لم يكن....كلمات مهرة أعطته ذلك الإحساس....جعلته يشعر أن المسألة بسيطة ولا تحتاج منه إلا للمواجهة...وها هو قد واجه أمه بكل مشاعره .... ألقى بكل الحمم التي تشتعل بداخله ....القى بكل الغضب والمرارة وخرجت كلها قاسية لازعة محمومة تحرق .....وبعد أن أفرغ كل تلك الشحنة لم يشعر بأن شيئاً تغير...أحس بشيء يخنقه...
- جئت لأني وعدت إنسانة أن أحاول إصلاح ما كسر ....إنها رقيقة وحالمة وكانت تظن أن المسألة بهذه البساطة....تظن أن أهم ما في الحياة أن يكون للمرأ أهل يعتمد عليهم ....ولكني سأعود لأخبرها أني في محاولتي إكتشفت شيئاً هاماً ....ليس كل الأهل يعتمد عليهم...
كانت تنظر له ودموعها تنساب على وجهها....إبتسمت في رفق...
- يبدو أنك تحبها....هل تحدثني عنها....
- لا أظن...يجب أن أرحل..
إتجه نحو الباب ليخرج ....أستوقفته بنادئها...أسرعت نحوه وأمسكت وجهه بين يديها
- أحمد...ربما يأتي يوم وتستطيع أن تفهمني وتصدق حبي لك .. يجب أن تكون واثقاً أنني هنا من أجلك...لا تتردد أن تأتي كما فعلت اليوم...سأنتظرك وأعرف أني سأراك قريباً ....ما دام الحب قد عرف طريقه لقلبك يا بني فأنا أعلم أني سأراك من جديد....
ضمته إلى صدرها والدموع تنهمر من عينها ودموعه عاصية تلمع في عينه ....
إنطلق عاداً إلى البحر....إلى مهرة...
الأربعاء، ١٥ أكتوبر ٢٠٠٨
الاشتراك في:
تعليقات الرسالة (Atom)
0 comments:
إرسال تعليق