الاثنين، ١٣ أكتوبر ٢٠٠٨

إحساس شتاء

الحجرة بسيطةٌ وأنيقةٌ يشع من أحد أركانها ذلك الضوء الخافت محاولاً أن يغزو الظلام من حوله. تجلس هي وزوجها بالقرب من ذلك الضوء. هي تشد ذلك الشال الصوفي حول كتفيها بإحكام وتحاول أن تقترب في جلستها من تلك المدفئة الصغيرة بالقرب منهما تلتمس المزيد من الدفء. هو يجلس ليس ببعيدٍ ولا قريبٍ منها يطالع ذلك الكتاب في يديه،يرتدي الروب الصوفي الأزرق ويلف الكوفية السوداء بإحكام حول رقبته ويضع "بونيه" لها على رأسه . بالخارج الطبيعة ترعد وتقصف وتزمجر،الأمطار تدق بعنف على النافذة،البرق يلمع بين الحين والآخر فيضيئ أشباح الليل في ومضة خافتة وتتراقص معه الأشكال وصوت الرعد يدوي كدقات طبول الحرب فيثيران في النفس لذة الخوف والبرد والبحث عن الدفء وسط البرودة القارسة،البحث عن الأمن وسط أهوال الطبيعة المزمجرة ،البحث بداخل النفس عن النفس...عن الحياة..عن الوجود...عن المشاعر التي تجمدت كما تتجمد كل الأشياء وتفقد بريقها ودفئها وسط برد الشتاء . تنظر لزوجها،مازال منهمكاً في ذلك الكتاب ،يجلس صامتاً قابعاً في ذلك العالم الذي خلقته له السطور... - هل تريد شيئاً ساخناً؟ لا يرد...تعيد السؤال ويرد عليها بصمته .تتحرك نحوه ،تهزه بيدها ،ينظر إليها بضيق:هل تريد شيئاً ساخناً؟.يجيب بإهتزازة من رأسه ...لا. يعود إلى سطور كتابه،إلى عالمه ،يطردها خارج الحدود،خارج حدود نفسه وخياله وعقله.تظل واقفة أمامه تتأمله،تتأمل ملامحه،قسمات ذلك الوجه الذي هامت به يوماً وملئها حباً. شعرت برعدة تعتريها فشدت الشال الصوفي أكثر حول كتفيها واتجهت إلى النافذة .أخذت تنظر لتلك المعركة في الخارج....تمر أمامها لقطات سريعة فتأخذها حيناً من ذلك المشهد ،من تلك البرودة ،ومن ذلك الظلام وتقفذ بها إلى إحساس قديم بعيد،إلى دفء ونور يشع من داخلها . تنظر إليه ،يعطيها ظهره ،النور الخافت يرسم ظله الضخم على الحائط بجواره. تذكرت كلماتهما معاً في يوم كان: - أحب الشتاء... تضحك - لماذا تضحكين؟!! - أنا أيضاً أحبه - أحب هدوءه...ثورته - أحب الغيوم في سماءه،مهما حاولت أن تحجب الشمس خلفها فهي ما تلبث أن تنقشع لتطلع علينا الشمس بدفئها اللذيذ. -أحب الأمطار - أنا أيضاً....هل تعلم،أشعر عندما تمطر كأن العالم كله قد توحد في شعور خالص،كأن العالم كله يبكي. - إنها الدموع الوحيدة في العالم كله التي تشعرنا بالسعادة - نعم إنها الدموع الوحيدة في العالم التي تشعرنا بالسعادة. تفيق من ذكرياتها على صوت الرعد الهادر،ما زال يطالع كتابه في هدوء وصمت. تنظر للخارج،إن العالم مازال يبكي ولكن دموعه ما عادت تشعرها بالسعادة بل هو شعور غريب كأنها على هامش الحياة لا تشعر بما فيها وكأنها على هامش نفسها لا تشعر بما فيها ،أم أنه لم يعد شيء فيها؟!!ضاع ما بداخلها،تجمد،جمدته برودة الشتاء. تنظر إليه...(هل تأتي أيها الربيع يوماً؟.هل تذوب أيها الثلج ؟هل تتدفقي أيتها المشاعر أنهاراً وبحاراً كما كنتي..آه..كما كنتي...كنتي ربيعاً دائماً وسط الشتاء،كنتي مرحاً وانطلاقاً وعدواً ودفءً وروحاً وحياة.كنتي...آه من هذه الكلمة.متى تصبح هذه الكلمة وكأنها ما كانت) أتجهت إليه ،جلست بجوار كرسيه،وضعت يدها على يده الممدودة.لم ينتبه إليها،ظل في عالمه كأنه مسحور ومجذوب إلى ذلك الكتاب بطلسم خفي.كيف تفك هذا الطلسم؟.تشعر بإحساس داخلها يعصر قلبها،دموع صغيرة تتجمع ولكنها ترفض الإفصاح عن نفسها،تفضل أن تظل مختبئة بين حنايا عينها .كثيراً ما مرت بها هذه اللحظة.تود أن تصرخ بقلبها، بعقلها، بدموعها، بنفسها.تصرخ بحياتها وروحها وذلك الجالس أمامها لا يشعر بما يعتمل في صدرها. الطبيبعة بالخارج تصرخ،تبكي،تشتعل لتخرج ما في جوفها، ولكنها هي لا تستطيع. تخاف ؟!...ربما.مما تخاف؟...منه؟...ولم تخاف منه؟....من رد فعله علي سخطها وغضبها وصراخها .وكيف سيكون رد فعله؟....سيصرخ هو الآخر...يغضب ....يثور....إنها تتمنى لو يفعل... فجأة عصف الرعد بشدة وومض البرق بقوة والأمطار صوتها كطلقات الرصاص تصيب النافذة كأنها تريد خرقها،وفجأة خطفت الكتاب من يده...... نظر إليها بدهشة وغضب،مد إليها يده وعيناه تأمرها بإعادة الكتاب. لا....قالتها دون أن تنطق،قالتها بخطواتها المتراجعة للخلف وهي تمسك بالكتاب وفي عينها اصرار على شيء ما . مازال يمد يده إليها وعيناه تأمرها بإعادة الكتاب وهي مازالت تتراجع للوراء وفي عينيها"لا"تتردد بإصرار.أصبحت بجوار المدفأة ،توقفت عن التراجع،ظلت العيون تنظر بلا كلام.يده ممدودة ، وهي تمسك بالكتاب . ألقت بالكتاب في المدفأة ،أمتدت ألسنة النيران لتلتهم صفحاته وأوراقه وسطوره كأنها أرادت أن تلتهم النيران عالمه الذي يبعده عنها .هب واقفاً وهو ينظر إلى الكتاب الملقى في أحضان ألسنة اللهب. نظر إليها وفي عينه نظرات الغضب والدهشة تتراقص مع شرارات النيران وصوت الرعد الهادر يزداد والأمطار تدق بعنف كطلقات الرصاص على النافذة كأنها تريد أختراقها. ظلا واقفين ينظران إلى بعضهما ،هي ترتعد من داخلها وهي تتوقع في كل لحظة انطلاقة ثورته عليها وتحاول أن يظل مظهرها جامداً متحدياً وهو يحمل بداخله من الدهشة أكثر ما يحمل من الغضب .......لا يفهم ما فعلت!!!!!..... نظر إليها.....الضوء الخافت ونيران اللهب تضئ ملامحها بصعوبة،ألسنة اللهب المتراقصة تضئ عينها حيناً وتحجب عنها الضوء حيناً أخرى.لا يكاد يدرك ما تحمله بين حناياها ،لا يكاد يرى الدموع الصغيرة المختبئة ،لا يكاد يقرأ سطورها أو يفهم معانيها .هي تنتظر منه أن يفعل شيئاً وهو لا يتحرك ......لا يستطيع قراءتها كما كان يقرأ كتابه،لا يستطيع الأنطلاق في عالمها كما كان منطلقاً في عالم سطور كتابه. ازداد الغضب والثورة بداخلها،طبيعتها تتجاوب مع الطبيعة في الخارج تحمل بداخلها رغبة عارمة في الثورة على ما يحدث .اتجهت في خطوات سريعة إلى المكتبة ،أخذت تلقي بكل كتبها أرضاً .يقف ينظر إليها،لا يحاول الأقتراب.نظرت إليه،دموعها المختبأة تتزايد وتعصر قلبها بقوة.امسكت بالكتب تحاول تمزيقها وهي تصرخ بقوة...تصرخ وتصرخ وهي تمزق الصفحات .انطلق إليها يحاول أن يمنعها من الأستمرار في ما تفعل. يظن أنها قد جنت......مازالت تصرخ وتدفعه بيدها وتصر على تمزيق كل ورقة كأنهاتمزق كل ما تكرهه في حياتها ،كأنها تضربه وتضربه وتضربه. تمزق الورق وتصرخ ودموعها تندمج مع الأمطار الهادرة وصراخها يتداخل مع صوت الرعد وألسنة اللهب تهتز وتتراقص وتزداد التهاباً وهو يحاول بكل جهده أن يمنعها من هدم عالمه. بداخله الغضب بدأ يزيد عن الدهشة،بدأ يتكلم بهدوء محاولاً السيطرة عليها ،تزداد عاصفتها ،أمطار عينيها ورعد صرخاتها والصفحات الممزقة تتطاير بين أصابعها ،وأصابعه تتداخل معها محاولة لملمة الصفحات الممزقة . الأمطار ما تزال تحاول أن تخترق النافذة وصرخاتها تخترق أذنه ،وأصابعه المتداخلة مع يدها تتلقى هجوماً من أظافرها . يبدأ صوته يعلو ونبراته تزداد حدة وألسنة اللهب تتراقص والصراخ يزيد والرعد يتجاوب معه وصوته يعلو ويعلو وغضبه يتزايد ويتزايد وصوته يعلو حتى أصبح صراخاً.عينه تلتقط في رعب وغضب منظر أصابعها وهي تمزق أوراقه وكتبه،أفضلها وأحسنها وأقربها إليه.أظافرها تخترق يده وأصابعه وهو يحاول منعها .صراخه يعلو حتى غطى على صراخها،إنه لا يحتمل،لا يستطيع إحتمال كل ذلك،يجب أن تنتهي هذه المهزلة ...هذا الجنون. هب واقفاً وهو يصرخ فيها:كفى. إنها لا تكف بل تزداد إصراراً على ما تفعل .يكرر:كفى. ولكنها لا تستجيب .يشدها من ذراعها بقوة ،يجعلها تقف،يصرخ فيها وترد عليه بصراخها. لا يدري إلا وأصابع كفه المجروحه ترتفع في الهواء لتهوي على وجهها:كفى...كفى....كفى. تفتح النافذة في عنف على مصرعها ،الأمطار تنهمر بعنف داخل المكان ويندفع معها الهواء البارد بشدة فيطفأ نيران المدفأة .تتطاير الأوراق الممزقة في كل مكان بالغرفة. توقف عن الصراخ.....تركها وأتجه إلى كرسيه،سقط عليه ووضع رأسه بين يديه. صوت صراخها وبكاءها توقف إلا من نهنهات مخنوقة ،ظلت واقفة في مكانها،دموعها تنزل بصمت على وجهها والبرد يرعشها - لماذا فعلت ذلك؟ جاء صوته خافتاً حزيناً ،أجابته بصوت خنقته الصرخات والدموع: - لأجعلك تفعل ما فعلت. هب واقفاً وهو يستدير إليها بحدة: - لأضربك...لأصرخ فيك؟!!!أنت مجنونة. - بل أنا أحبك.أحب حياتنا معاً وأن نكون معاً حتى وإن ضربتني أو صرخت فيّ فهذا أفضل من أن تظل تتجاهلني وتتجاهل وجودنا معاً في حياة واحدة وبيت واحد . أحست بأن قواها لا تستطيع حملها أكثر من ذلك فتهالكت على الأرض وسط الكتب المبعثرة والأوراق المنثورة.أسقطت رأسها على صدرها وهي تكمل بصوت ضعيف:لقد تعبت من إحساس الوحدة،من وجودي على هامش حياتك ووجودك خارج حياتي .أنا أكره هذا الأحساس.أريدنا كما كنا.هل تذكر كيف كنا؟هل تتخيل أنه أصبح مجرد ذكرى وأن كنا هي الكلمة الوحيدة التي نستخدمها لتعبر عن هذه الذكرى. - أأنا السبب؟!! - لا يهم من السبب ،لا يهم ما السبب.المهم أن لا يستمر ذلك.أريد أن يذوب الثلج.أردت أن أشعل فيه النار ليذوب وتعود حياتنا . ألتقطت أنفاسها المقطوعة ومسحت دموعها المبعثرة وهي تقول بضعف حازم: أريدها أن تعود . - كان من الممكن أن نتناقش.لم يكن هناك داعٍ لهذه العاصفة - هل كنت ستشعر بي لولا هذه العاصفة؟ نظر إلى عينها التي أجهدتها الدموع .لا يدري إجابة السؤال.شعر أن هناك شئ مفقود،حلقة ناقصة .يحاول أن يفكر بعقله ليبحث عنها ويجدها. صوت العاصفة بالخارج بدأ يخفت لكن الهواء البارد ما زال يتسلل من النافذة المفتوحة .اتجه إلى النافذة وأغلقها ثم شد الكوفية أكثر حول رقبته وأحكم الروب الصوفي حوله.نظر إليها .كانت ترتعش .فكر:هل ترتعش من البرد ومن العاصفة أم من ثورتها. نظرت إليه وهو يغلق النافذة ويحكم روبه وكوفيته .لم تفكر وإنما قامت لتشعل المدفأة المطفأة . جلس بالقرب منها يلتمسان الدفء . هو يفكر وهي تنتظر. العاصفة بالخارج توقفت،الطبيعة اعلنت نهاية ثورتها ولكن إحساس الشتاء مازال قائماً . مازال هو يفكر في إجابة كل الأسئلة وهي تنتظر وربما تعلن عن ثورة أخرى قريباً عندما تثور الطبيعة مرة أخرى على هذا الشتاء.
كتبت أول مرة في شتاء 2000

0 comments:

 
template by suckmylolly.com flower brushes by gvalkyrie.deviantart.com