(1)
تنساب الموسيقى ناعمةً فى هدوء المكان .. كل الكراسى خالية.. الصالة و البنوار والبالكون..و على خشبة المسرح أتكوّن ظلاً متحركاً، تتشكل خطواتى مع تلك الموسيقى و يلتحم جسدى معها متداخلة فى كل الأركان ..مغمضة العينين تاركة قيادى لأذنى ولإحساسى ..أحفظ الأبعاد .. أغوص فى العمق وأنطلق فى الأرجاء كأنها مرج فسيح لا حدود له..
أصوات همهماتٍ تصل لأذنى ..تتداخل الأصوات و تعلو رويداًحتى امتلأ المكان الهادىء بضجيجهم ..
يصمت اللحن.. أفتح عينى ببطء..
- أهلاً هالة ،هل انتهيت؟
أُجيب بإبتسامةٍ وإيماءةٍ من رأسى.. فينطلق صاحب السؤال يضىء كل الأنوار و هو يتساءل:
لا أدرى سر حبك للرقص فى الظلام!
تجيب إحدى الفتيات ساخرة: حتى لاترى نفسها؟!...
تنطلق الضحكات وابتسم معهم ... لم يكن أيٌّ منهم مهتماً بطقوسى تلك التى بدأت منذ أن وعت قدمى معنى الحياة على خشبة المسرح.. فى البداية كانوا يدخلون على أطراف أصابعهم منتشراً بينهم الهمس.. يراقبوننى بدهشة تحولت لإعجاب ثم مع مرور الوقت أصبح التعود
هو المسيطر .. لا شىء جديد .......يدخلون الآن مصطحبين ضجيجهم معهم .. لا أكره
الضجيج بل أعشق أحياناً الغوص فيه و لكن فى تلك اللحظات التى أنطلق فيها بمفردى مع اللحن الأثير أشعر بخصوصية الأشياء .. أتحدث حديثاً خاصاً مع تلك الأركان .. تتلمس أصابع قدمى تلك الأرض الخشبية فتنطلق الرسائل بيننا تزيد من عمق صلتى بها و توطد تلك العلاقة الحميمة التى تكونت.
بروفة.. صوت المخرج ينطلق فننطلق معه جميعاً... أنفصل عن كل العالم ...لا أصبح الآن غير (هيلدا) تلك الشيطانة التى غررت بكل بنى البشرفتخلوا لها عن عقولهم و أرواحهم إلا واحداً .. ظل يقاومها حتى قتلته ثم اكتشفت أنه سلب قلبها ، فتحولت إلى ظل ينطلق فى الحياة تبحث عن روحه حتى وجدتها نوراً يشع فى مركز الكون ... و لم تستطع مقاومة النور فتلاشت و صوت صراخها يملأ الكون و يعيد كل ما سلبته لبنى البشر و تنطلق الحياة من جديد.
لم أتصور يوماً أن كل هذا الشر قد يكون كامناً فى أعماقى و لكن (هيلدا) تخرجه على خشبة المسرح .........قال أحد الزملاء لى يوماً بعد انتهاء البروفة :لقد خفت منك.
ظننته يمزح و لكنه كان صادقاً.. لقد بدأت أنا نفسى أخشى من نفسى .. و بدأت
أتساءل .. ما هو الإنسان ؟!.. ما هى تلك النفس بداخله؟!
(2)
(كلنا نعيش وبداخلنا روحٌ واحدةٌ تتشكل بداخل كل منا على حدة لتمنحه طابعه المميز ،ولكننا كلنا نمتلك نفس الأشياء بداخلنا،كلنا نملك الشر)
استرجع كلماته وأنا أسير في ذلك الطريق الطويل لمنزلي بعد إنتهاء البروفة .
كان المشهد الرئيسي اليوم هو مشهد القتل،عندما قتلت(هيلدا) حبيبها بكل قسوةٍ رافضةً عدم خضوعه لها،لم تكن القسوة فقط هي التعبير الوحيد الذي يجب أن يظهر على وجه (هيلدا) بل الحب أيضاً ،الحب والقسوة معاً .
لم أتمالك نفسي بعد إنتهاء المشهد وأخذت أبكي طويلاً .جميعهم حاولوا أن يهونوا الأمر علىّ: إنه مجرد تمثيل يا هالة ،مشكلتك أنك تندمجين أكثر من اللازم.
شعرت برغبةٍ في المشي وها أنا ذا انطلق عائدةٍ إلى منزلي مشياً على الأقدام ......يغوص كياني من التعب والإنهاك. هل أرغب في تعذيب نفسي؟ ربما أريد أن أعاقب تلك الشريرة بداخلي.
أنفض رأسي في عنف(اتركي تلك الأفكار المجنونة وإلا ستؤدي بك لنهايتك،أتركيها أو فلتتركي خشبة المسرح للأبد)..... رجفة تشملني عندما استرجعت كلماته هذه. قالها لي في آخر لقاء قبل سفره. تركني وذهب بعد أن وضعني أمام اختيار،وهل أملك الاختيار؟!
(3)
في المنزل ..... ترك لي رسالة على الهاتف(سأعود يوم الإفتتاح .لا بد أن احضر العرض كما وعدتك.سأكون مشغولاً جداً الأيام القادمة وقد لا أستطيع الاتصال.اتمنى أن تكوني بخير.كيف حال هيلدا؟....قاوميها)
ابتسمت....إذا قاومتها فلن يكون لها مكاناً على خشبة المسرح بل سأكون أنا...وإذا أستسلمت لها فقد لا يكون لي أنا مكان على خشبة الحياة....هل أملك الاختيار؟!
أستلقي على الأريكة أتابع الأخبار وأمسك بين يدي بكوب الشاي بلبن الساخن أرشفه في ببطء.....آلاف من أمثال هيلدا يعيشون في هذا العالم ،الأخبار تنقل لنا أخبارهم وشرورهم كل يوم بالصوت والصورة.....كل تلك المذابح والحروب......الشر يتجسد أمام العالم ويتصدر الأحداث...... ينطلق جامحاً بلا ضابط يحكم الكون ويقوض أرجائه وهؤلاء المقاومون ينطلقون كشرارة النور وسط الظلام،يحاولون،يَقتُلون ويُقتَلون وتسيل الدماء فلا تمتزج.........
أتساءل:هل يأتي يومٌ يتحول فيه الشر لظل يقتله النور وتعود الحياة من جديد؟!
(قوة الحياة تنبع من داخل أرواحنا....هذا هو النور ومصدره الحقيقي بداخل الروح الحب والحرية)
أتذكر ذلك الحوار بيننا ،أتذكر سؤالي له:
- هل تقصد أنني عندما أحبك تُخلق بداخلي قوة الحياة.
- بل عندما تحبين كل الأشياء.ألست تحبين التمثيل،المسرح،التفاح،الشمس، المطر، الورود البيضاء،كل هذا يخلق بداخلك قوة الحياة.
- ومن يُوجد الآخر؟ الحب يوجد الحرية أم الحرية توجد الحب؟أين البداية؟ هل عندما أحب كل الأشياء أشعر أنني حرة أم عندما أملك الأحساس بالحرية أبدأ في حب كل الأشياء؟
-إنهما إحساسان متلازمان،عندما يقع أحدهما لا بد للآخر من الوقوع.
- ولكن كيف يجتمعان؟عندما نحب شيئاً نقيد بحبنا له،أين الحرية إذاً؟. وإذا إنطلقنا أحراراً في الحياة فلن نرتبط بشيء لنحبه.
-الحب مسئولية والحرية مسئولية.عندما تعرفين ما معنى المسئولية ستعرفين كيف يجتمعان.
- هل لا أعرف معنى المسئولية؟
-هل تحبين "هيلدا"؟
-أنت تهرب من سؤالي.
(4)
أفقت من نومي، غلبني النوم فقضيت الليلة على الأريكة. كوب اللبن لم أرشف منه إلا القليل. مازالت الأخبار تنقل شرور العالم. أغلق الجهاز.
تحت الماء الدافيءأقف وأترك جسدي يسترخي.أغمض عيني. يتردد السؤال في عقلي(هل تحبين "هيلدا"؟)
طوال عمري لم أقدم على شيء إلا إذا أحببته،لا ينطلق الإحساس من داخلي إلا عندما يتملكني الحب. إذا فأنا أحب "هيلدا". ماذا أحب فيها؟ إنها كتلة من الشر المتحرك. ولكنها أحبت وتلاشت أمام قوة حبها لتمنح العالم الحياة من جديد.
لا أنا أغالط نفسي،لقد كانت طاغية تريد إمتلاك كل شيء وعندما عجزت عن ذلك إنهارت وكانت نهايتها عقاباً لها.
كانت يجب أن تنتهي لتعود الحياة،فالحياة وهيلدا لا تجتمعان،والحياة هي الحب والحرية.إذاً فهيلدا لا علاقة لها بالحب،إنها الرغبة في التملك تلك التي ملأت نفسها الشريرة.
أفتح عيني وأنا أصرخ: وجدتها.....تذكرت أرشميدس وضحكت. خرجت من تحت الماء الساخن بعد أن وصلت للحقيقة. إنها الرغبة في التملك هي التي خلقت منها الروح الشريرة،هي التي بعثت فيها كل الشر الكامن في أعماقها وجعلته ظاهراً جلياً على سطح حياتها تطلقه نحو البشر تريد السيطرة عليهم وتملكهم لنفسها ....الرغبة في التملك ،هذا هو السبب وراء شر هيلدا وأشباهها.
(إنها خاوية جوفاء) ......قال هذه الكلمات يصف بها هيلدا بعد أن قرأ النص لأول مرة.
غضبت منه يومها ولم أفهم ماذا كان يقصد......... اليوم أفهم.
(5)
تبدأ البروفة....هناك شيء مختلف اليوم لا بد أن الكل لاحظه. زميلي ذاك الذي قال لي يوماً أنه يخافني اليوم يضحك وهو يقول لي:
-لقد فهمتيها أخيراً.
- صحيح؟!
- نعم. كنت تقدميها شراً خالصاً،شراً مطلقاً ولكنك اليوم كشفت ما وراء هذا الشر. كشفت الوجه الحقيقي له.
- كنت لا أفهم كيف يمكن للحب والقسوة أن يجتمعان على وجهها في ذاك المشهد.اليوم أعلم أنه ليس الحب بل الهلع من فقد شيء أرادت تملكه دوماً والقسوة تكمن في عدم قدرتها على إنتزاع ما تريد فأرادت أن تطلق كل غيظها في ضربة خنجر نحو ذلك القلب الذي لم ولن تملكه بأنانيتها.
يبتسم ويقول وهو يمضي:ستنجحين...العرض قد أقترب وسترين.
(6)
أستيقظ على صوت الهاتف يرن. الوقت بعد منتصف الليل.التقط السماعة فيصلني صوته مازحاً:
- ظننتك لن تنامي الليلة،العرض غداً.
- أين أنت؟!
- اتحدث من المطار. ستقلع الطائرة عائدة بي بعد قليل.
- لن استطيع الحضور لأستقبالك.
- لا عليك. كيف حال هيلدا؟
- بخير. لم أصل لإجابة على سؤالك.
- أيهم؟!
ضحكت ملىء قلبي...ضحك معي....أجبته من بين ضحكاتي:
- إذا كنت احبها؟!
- ...............
- أين ذهبت؟!
- أنا هنا....أكملي ......أنا منصت لك.
- لقد فهمتها ....فهمت لماذا قلت أنها خاوية. ولكن لست أدري إذا كنت أحبها أم أشفق عليها أم أكرهها. المشكلة أنني أشك في قدرتي على الإندماج معها.
- هذا قلق ليلة العرض ليس إلا.
- هل تظن ذلك؟!
- أنا واثق. المهم أنك وضعت يدك على حقيقتها. يجب أن أذهب الآن،سأراك في العرض. تألقي.
(7)
أجلس أمام المرآة تاركةً خطوط المكياج ترسم فوق وجهي ملامح هيلدا.
كنت قد كونت صورة لها في خيالي منذ أن بدأت التعرف عليها. أتوقف أكثر من مرة لأعطي ملحوظاتٍ عن الألوان التي يجب أن توضع والظلال التي يجب أن ترسم.
أخيراً أنظر لنفسي في المرآه....... قمت سريعاً وغسلت وجهي كله بالماء ويقف الماكيير مذهولاً أمامي ثم لا يتمالك نفسه من الغيظ. ينادى المخرج ليتعامل مع تلك المجنونة التي بالطبع هي أنا.
- أريد أن أكون وجهاً عادياً بملامح عادية. وجهاً قد تراه إذا نظرت لأي شخص.
- ولكن هيلدا ليست أي شخص
- بل هي أي شخص. أدائي سيرسم ملامحها لتصبح شخصاً معيناً ولكن الألوان ستعطي انطباعاً عنها قد لا يجاريه الأداء في كل وقت. هيلدا تنفعل وتضعف وتطلق شرها وخيرها وتقتل وتسلب ثم تتلاشى ظلاً . الألوان ثابتة طوال العرض لا تتغير لتعطي الإحساس بإنتقال حالات هيلدا ولكن الأداء يمنح ذلك.
- اتريدين أن تصعدي على خشبة المسرح بلا مكياج.
- اريد وجهاً عادياً بملامح عادية،وجهاً قد تراه إذا نظرت لأي شخص.
يدخل الساعي حاملاً باقة ورود بيضاء. يبتسم المخرج: هل عاد من السفر.
أتلقى الورود بين أحضاني: نعم.
(8)
عشر دقائق وتُفتح الستار....أترك أصابع قدمي تلامس تلك الأرض الخشبية ..... أغمض عيني وتنطلق الموسيقى من داخل ذاكرتي تعزف اللحن الأثير..
فُتحت الستار...........وانطلقت هيلدا........
كتبت لأول مرة في أبريل 2002
0 comments:
إرسال تعليق