الأربعاء، ١٥ أكتوبر ٢٠٠٨

تابع (البيت الخشبي)

(5) كانت حفلة بسيطة لم يحضرها إلا والدا نهاد وأختها وأحمد ووالده - دكتور جمال - وأهل أمجد...ومهرة كانت نهاد جميلة ترتدي ثوباً سكرياً أنيقاً وتجلس بجوار أمجد الذي ظهر في أحسن حالاته.... كانت مهرة تقف بجوارها وقد فكت ضفيرتها الطويلة وتركت شعرها يموج منطلقا حرا فظهرت أكبر سناً ، كانت ترتدي ثوباً وردياً وتضع قليلاً من المكياج ....إقترب منها دكتورجمال .... - كيف حالك يا بنيتي؟ - بخير يا عمي... - إن شاء الله نبارك لك على فرحك قريباً . إبتسمت في صمت ... لم يقترب منها أحمد طوال الحفلة كأنه كان يتحاشاها....هكذا شعرت...شيء مخنوق بداخلها ....تحاول أن تساعده ولكنها تحتاج من يساعدها....لقد نسيت بعض الوقت مشكلتها الخاصة وإندمجت معه في مشكلته وإحساسه ولكنها اليوم ورغم أنها في حفل أقرب الصديقات لنفسها إلا أن الأفكار تسترسل في عقلها رغماً عنها... تصورت يوماً ستكون فيه مكان نهاد....تصورت نفسها وحيدة إلا من مربيتها المخلصة....من سيحتفل بها... ممن ستُطلب يدها ومن سيكون مسئولاً عنها أمام أهل العريس ويرفع من قدر إبنته عندهم ويتصرف بما يجعلها عزيزة كريمة ...أين الأهل ...كيف ستقف وحيدة في هذا الموقف .... تمنت لو تستطيع أن تفرغ ما بداخلها لأحمد كما تعودت منذ أن قابلته....ولكنها لا تستطيع ...في هذا الأمر بالذات لا تستطيع...لأن أحمد بالنسبة لها لم يصبح مجرد صديق تثق فيه...لقد أحبته ...ولكنها تقاوم ... وتشعر به أيضاً يقاوم...تجربته الخاصة هي السبب ، وفقدها للأهل هو السبب.....شيء مخنوق بداخلها هو كان يتابعها خلسة دون أن تشعر...لقد أحبها...ولكن ذلك الحاجز بداخله ...أمه....إقتنع بكلماتها وقرر أن يسافر ...أن يواجه أمه ...أن يعطيها فرصة ويمنح نفسه حياة بلا آلام....ولكن مازالت الشجاعة تنقصه.... لم يستطع الإقتراب منها طوال الحفلة....شعر أنه لو فعل فلابد أن يخبرها بحبه...ولم يكن يرغب في ذلك... أوصلها لمنزلها ...لم ينطقا بكلمة طوال الطريق....سيل من التفكير يتقطع ، يدور في دوائر لا تنتهي ..ذكريات كثيرة تعبث ...أحلام تحلق فوق الرؤوس....مشاعر ترتجف .. أحاسيس تتشابك وتتعقد ....شيء مخنوق يربض في النفوس... تصبح على خير قالتها وهي تركض ...تحاول لململة تلك الدموع التي تخشى أن يراها تتساقط على وجهها.. تصبحين على خير قالها وهو يتلمس طيفها الذي أختفى سريعاً من أمامه ولم يتبقى منه إلا رائحة الياسمين التي تفضلها ممزوجة برائحة البحر ... سار نحو البحر...الجو بارد قاسي...الموجات عنيفة تدق الصخر بقوة وصوتها يرعد في سكون الليل الرابض .. أن يحب ، لم يكن هذا شيء يتوقعه...دوماً كان يخشى تلك المشاعر الحميمية التي تسيطر ...عندما أحب...إكتشف أنه يحتاج لهذا الشعور...لا ليس هذا الشعور، ولكنها مهرة ..هي من كان يحتاجها...شيء بداخله كان يفتقدها قبل أن يراها أو حتى يعلم بوجودها في هذا العالم...شيء كان ينقر على أوتار قلبه نقراً خفيفاً كلما كان يراها على الشاطيء عند الغروب ولم يكن يعي ...ثم تحدثا لأول مرة وكلما تقابلا وكلما دارت الكلمات لتفتح طريقاً بينهما لم تكن تتسلل لعقله فقط ولكن ذلك النقر على أوتار القلب كان يتشكل ليصبح لحناً هادئاً يمسح برقة توترات روحه ونفسه...ماذا سيحدث لو أخبرها أنه يحبها...لماذا يخشى...لماذا يتردد ويتعلل بمشكلة صارت ذكرى مع السنين...لماذا يسمح لأمه أن تؤثر عليه وعلى مشاعره رغم كل البعد وتلك المسافات التي تفصل ...لا ،،يجب أن يضع حداً لكل هذا....لقد إنتصر على آلامه القديمة وتجاهل كل شيء وحقق النجاح في حياته ...ليتجاهل كل شيء من جديد ...أسرع نحو منزل مهرة...توقف أمام الباب وهمّ أن يضغط الجرس... أنزل إصبعه ....توقف أمام الباب ...الصمت يتردد فيه صوت دقات قلبه مرتفعاً ....يرحل سريعاً...بعيداً ... دخلت عليها دادة خديجة ...كانت ترتمي على سرير والدها يتقطع صدرها بالبكاء ...أصابها الفزع في قلبها ،أسرعت نحوها والرعب يملئها،لم تراها باكية على هذا النحو عمرها كله... - مهرة...أبنتي ماذا حدث؟؟؟ سقطت مهرة على صدرها تختبأ فيه وتحتمي...صدرها يعلو ويهبط بقوة ودموعها تقتلع شهقاتها...ضمتها دادة خديجة بقوة ويدها تمسح على شعرها المسترسل ...تتلو آيات من القرآن وتهدهدها كالطفل الصغير ... لم تمض دقائق حتى هدأت تلك الدموع بين جفنين مطبقين وصمتت الشهقات إلا من نهنهات خفيفة وبدت مهرة كالطفلة الصغيرة المستسلمة لحنان أمها يداعبها ....ولكن دادة خديجة كان يتقطعها القلق وذلك المشهد الذي لم تعهده في حياتها الطويلة مع صغيرتها يزيد من قلقها وخوفها ..... - ماذا حدث يا صغيرتي؟؟ - لا شيء يا دادة.. - لا يا حبيبتي...هناك شيء...يجب أن تخبريني ... تحررت مهرة من تلك الضمة القوية ...نظرت في عين مربيتها المخلصة...لم تستطع مقاومة الدموع فعادت تنهمر من جديد... - أبي يا دادة... أوحشني كثيراً...لم أعد قادرة على العيش بدونه... عصر الألم قلب المربية والدهشة أيضاً ..كانت أول مرة تعترف مهرة بهذا الإحساس... - ياه يا مهرة...لقد مضى وقت طويل... - أنا محتاجه له يا دادة....لماذا تركني ...لماذا؟ - هذا أمر الله يا حبيبتي..غداً يعوضك الله بمن يملئ عليك حياتك ويكون لك الأب والحبيب والزوج...ثقي في الله يا مهرة ألم يعلمك أبيك أن تثقي في الله... - ظننت أني أستطيع مواجهة كل أموري في هذه الحياة بمفردي ولكني أكتشف أشياء لا أستطيع التعامل معها بدونه...دادة لقد سألتك كثيراً عن أهلي ودائماً تخبرينني أنك لا تعرفين شيئاً ...أرجوك لو كنت تعرفين أي شيء أخبريني ...ربما هناك شيء تخشين على منه فترفضين إخباري بالحقيقية ولكن لا تخشي شيئاً أنا قوية ...أرجوك أخبريني الحقيقة... تمسح المربية على شعرها ووجهها والحزن والألم يعتصر ملامحها.. - صدقيني يا بنيتي أنا لا أعرف شيئاً عن حياة أبيك قبل أن أعمل عندكم...ولا أعرف عن أمك
- ولكن يجب أن أعرف... في اليوم التالي أسرعت لمنزل نهاد ... - هل عمي موجود.... تعجبت نهاد من وجه مهرة الشاحب وملئها القلق.. - ماذا حدث؟ - هل عمي موجود؟؟؟أريد أن أقابله.. جاء صوت والد نهاد من الداخل قادماً ليرحب بمهرة... - كيف حالك يا بنيتي؟ - عمي ...كنت صديق أبي الأقرب...سألتك من قبل لو كنت تعرف أشياء وتخفيها عني..أرجوك أرغب أن أتعرف على أهلي ...أرغب أن أعرف من هي أمي...أريد أن تكون لي عائلة...أحتاج لهذا اليوم أكثر من أي وقت...أرجوك يا عمي لو تعرف شيئاً .. - صدقيني يا حبيبتي ...رغم صداقتي لوالدك إلا أنه كان قليل الكلام عن ذاته... مهرة لقد تحدثت معك بهذا الشأن من قبل وأخبرتك أني كوالدك الراحل أب لك وبيتي هو بيتك وطلبت منك كثيراً أن تأتي مع مربيتك لتعيشي معنا....لماذا ترفضين ولماذا تعذبين نفسك بتلك الأمور المستحيلة يا بنيتي. - أشكرك يا عمي... غادرت مهرة سريعاً كما جاءت سريعاً ولم تفيد توسلات نهاد بأن تبقى قليلاً ... إنطلقت للبحر وظلت جالسة هناك طوال اليوم شاردة ....طاف أحمد بخاطرها ...تنمت لو تراه ....كانت تحتاجه....حاولت الوصول له ولكنها فشلت فهو لا يجيب على الهاتف ولا تجده في أي مكان... مر يومان وهي على حالتها....تملكتها رغبة كالهذيان إنطلقت كل نفسها المكبلة بالقيود طيلة خمس سنوات تعبر عن كل حزنها وكل ضعفها وكل خوفها وقلقها ....شيء كالجنون يمسك بتلابيبها وشبح أبيها يطوف بكل ركن حولها...تقبع في المرسم طوال اليوم جالسة كالصنم أمام لوحاته تعبث بعقد أمها....أو تشرد على البحر تقضي الأوقات على تلك الصخرة التي يفضلها أحمد ..ولكنه لا يأتي...لا يتصل....لا تراه....لم تكن تحتاجه أكثر من هذا الوقت..ولكنه إبتعد...بعيداً جداً ...تركها من جديد وحيدة.... كان يجلس على المقهى حين أقبل عليه أمجد. - مهرة تمر بحالة غريبة....ألم تخبرك نهاد؟ لم يتلقى إلا الصمت...كان أحمد يجلس محملقاً في لا شيء ...لم يستطع أن يتمالك أمجد نفسه.. - ماذا بك...ألا تفهم...إنها تحتاجنا بجوارها... قام أحمد وسار مبتعداً ....من خلفه جاء صوت أمجد الحانق... - أنت لا تستحقها... أصابته رعشة ...إستمر في طريقه... فتحت له دادة خديجة الباب.... - مهرة محمومة.....إنها تهذي ... وجد أمجد بجوارها يفحصها ونهاد تتلقاه بنظرات لائمة... فحصها أمجد: نزلة برد شديدة جداً ...كنت أفضل نقلها للمستشفى ولكنها ضعيفة لذلك سأعتمد عليك يا دادة خديجة وسأخبرك بكل التعليمات الضرورية ومواعيد الدواء وسأمر عليك يومياً حتى تشفى بإذن الله. كان أحمد يجلس بجوار السرير يمسك بيدها والقلق ينطلق من عينيه ....فتحت عينها: - أحمد.... - أنا هنا يا مهرة... ابتسمت في ضعف: سأموت..سألحق بأبي... إرتعش جسده وملئه إحساس بالرعب ....وصاحت دادة خديجة باكية . أكملت مهرة بكلماتها المتهدجة وهي تضغط على يده: هل تحبني؟ لم يجبها....ابتسمت: أنا أحبك. وسقطت في غيبوبة الحمى من جديد....هو ينظر لها مرتاعاً ملهوفاً ودادة خديجة تبكي في حرقة. وضع أمجد يده على كتفه..: ستكون بخير بإذن الله.....هل ستأتي معي لنحضر لها الدواء؟ - لا...لن أتركها حتى تفيق... دخلت عليه دادة خديجة فوجدته ممدداً على الأرض بجوار سرير مهرة...لمست جبينها ووجدت الحرارة قد إنخفضت كثيراً فتنفست الصعداء وابتسمت في إرتياح. حاولت إيقاظه برفق: دكتور أحمد... تنبه من نومه فزعاً ... - لا تخف يا بني ...إنها بخير ... أقترب من مهرة ولمس جبهتها وخف ذعره عندما شعر بإنخفاض حرارتها. - لم تأكل شيئاً منذ الأمس....لقد حضرت لك طعام الإفطار... - لا أشعر بالجوع يا دادة. - ولكني لن آكل حتى تشاركني الطعام....لم أكل لوحدي أبدا ًفدائماً أبنتي تشاركني طعامي ،وحتى تستيقظ بالسلامة لابد أن تحل محلها ...وإلا ستغضب منك كثيراً لو علمت أنك تركتني جائعة. إبتسم أحمد....لمست دادة خديجة ذلك الإحساس....إحساس الإبن وأمه....كانت في حديثها معه وذلك الحنان الذي تنطق به ملامحها وحروفها تثير تلك الذكريات التي مضت....ذكريات قادمة من عمق الأيام لطفل صغير يلهو ويرفض ترك ألعابه ليتناول طعامه....فتهدده أمه بأنها لن تأكل حتى يأكل معها وستظل متوقفة عن الأكل حتى يقتلها الجوع ....يخشى الطفل على أمه الحبيبة فينهض تاركاً عالم اللعب وينطلق نحو المائدة فتجلس بجواره تضع الطعام في فمه وتحكي له الحكايات وتغني له الأناشيد.... - دكتور أحمد.... يفيق من ذكرياته التي هاجمته بقوة....ينظر لدادة خديجة....... - ستأكل؟! - نعم ...سآكل معك يا...دادة. كان جائعاً فعلاً ...أكل كثيراً ودادة خديجة تحكي له عن مهرة الصغيرة ... - عندما كانت طفلة صغيرة كان العند من أهم مميزاتها...كانت لا تقتنع بسهولة إلا بما يقوله لها والدها....مهما حاولت معها لا فائدة ولكن بمجرد أن يتحدث معها والدها تقتنع وتنفذ دون إعتراض....كانت تغيظني كثيراً ولكني عرفت فيها حبها الشديد له وإرتباطها القوي به فلم أكن أغضب منها... كانت مرحة شقية ومازالت ولكن تلك الطبيعة فيها الآن أصبحت مختفية وراء حزنها وحيرتها وقلقها من الغد... لقد كبرت طفلتي قبل الآوان.... كان أحمد يستمع لها وذكرياته تتداعى....تذكر طفلاً كان يشبه ما تتحدث به دادة خديجة....طفلاً كان يستسلم لأمه ويقنعه حديثها الهادئ ويرفض ما دون ذلك وتصيبه موجات العناد لو حاول معه أيّا كان إلا أمه.... نظرت له دادة خديجة والحنان يملئ قلبها ووجهها الرقيق... - منذ توفى والدها لم أجدها يوماً سعيدة بحق وعيناها تلمعان إلا عندما بدأت تدخل حياتها،كلما قابلتك عادت تلك الفتاة التي كنت أعرفها منذ كانت طفلة....المرح والشقاوة والبهجة . مهرة لم تفتح قلبها لشخص يوماً إلا والدها....ثم أنت...لم تسمح لأي شخص حتى أنا بإقتحام عالمها الخاص والإطلاع على أسراره وأسرار عقلها وأفكاره إلا أنت...عرفت أنها تحبك قبل أن أسمعها تهذي بها.... أثق في أنها صادقة فقلبها لا يعرف الكذب.....أثق أنها تحتاجك مهما حاولت إظهار القوة أو أنها لا تحتاج للأخرين ولكني أعرفها...بداخلها طفلة صغيرة خائفة تحتاج لمن يضمها ويربت على شعرها ويمنحها الأمان والحماية ... ماأرغب حقاً في التأكد منه...هل تحبها حقاً يا بني؟....هل تستطيع أن تكون لها الصديق والحبيب وتعوضها عن الأب والأهل اللذين فقدتهم...؟ - دادة خديجة...أحمد... كانت مهرة تقف على باب الغرفة في ضعف ....جريا نحوها..أمسك أحمد بها وأجلسها على أقرب كرسي...كانت تبتسم في وهن... - كيف حالك الآن يا طفلتي؟.... - بخير...أشعر أنني ضعيفة قليلاً ولكني بخير.. - حمداً لله على سلامتك يا مهرتي الصغيرة.. أما أحمد فكان صامتاً ينظر لها وفي عينيه قرأت لأول مرة إحساسه دون أن يداريه في أعماق قلبه.... عاشت مهرة ......تخطت الحمى والإرهاق والهزال وكل شيء وعاشت....... على شاطيء البحر كانت تستند إلى ذراعه وتسير ببطء بجواره ....صعد بها صخرته وأجلسها هناك وجلس بجوارها يراقبان البحر ... - سأرحل غداً للعاصمة.. نظرت له دون أن تعلق....أخبرتها دادة خديجة بما صدر منها في الحمى وإعترافها له بحبها....ولكن لم تخبرها عن الحوار الذي دار بينها وبين أحمد....لم يتحدث معها بشيء حول كل ما حدث ....ولم تفتح الموضوع على الرغم من نظراته التي أكدت لها أنه يحبها...ولكنها لم تتأكد بعد أنه لها...ولكنها لم تجد بعد ما تبحث عنه...ولكنها لا تدري كيف ستتقبل مصارحته لها وهي وحيدة في العالم ... - سأذهب لأرى أمي.... إبتسمت ....من كل قلبها تمنت له النجاح في مسعاه....هي فقط من تشعر بأهمية هذه الرحلة.

0 comments:

 
template by suckmylolly.com flower brushes by gvalkyrie.deviantart.com