الأربعاء، ١٥ أكتوبر ٢٠٠٨

تابع (البيت الخشبي)

(9) وصلت للواحة.....أشجار النخيل تقف شامخة عالية تحتضن المنازل ، صنوف الناس كلها هنا.....السائحون والبدو وأهل المدينة....... مسحت العرق عن وجهها وسارت تحمل حقيبتها الصغيرة، إستوقفت بدوياً : هناك منزل بالقرب من الواحة ...في الصحراء...إنه منزل السيد "صالح رفعت".....كيف أصل إليه. نظر لها في عدم معرفة وتركها..... ظلت واقفة تسأل كل من يمر بها......إلتفتت ووقعت نظراتها عليه......يرتدي ثياب البادية ولكنها ثيابا مميزة تختلف في تفاصيلها وهيئتها عن ما يرتديه غيره من البدو الموجودين في المكان ، كان يبدو مختلفا..يمتطي جواده الأشهب ،يرمقها بنظراته الهادئة من بعيد وسمرة وجهه تلمع تحت الشمس ..... تقدم نحوها بعد أن ترجل عن فرسه.....إحساس بالراحة والطمأنينة يحتلها ...لم تحاول أن تفكر في منطقية هذا الإحساس أو تبحث عن سببه فقط إبتسمت في راحة وثقة وهي تنظر في عينيه البنيتين.... - عن ماذا تبحثين؟ - منزل أبي....السيد" صالح رفعت" إنه يملك منزلاً هنا بالقرب من الواحة وأريد الذهاب هناك. إبتسم ونادى على أحد الفتيان المرافقين له وأمره أن يحمل حقيبتها - من أنت؟ - أسمي صخر....حفيد شيخ القبيلة التي تسكن هنا بجوار الواحة.. - أنا مهرة......مهرة صالح رفعت. قالت الأسم وهي تحاول أن تلمح على وجهه أي بادرة تشعرها أنه يعرفها أو يعرف أباها ..أي بادرة تشير أنه قد يكون واحد من الأهل أو خيطاً يوصل لهم....ولكنه كان يبتسم في هدوء يرمقها بنظراته الهادئة وعينه البنية. ساعدها لتمتطي أحد الخيول ثم أمتطى فرسه وسارا معا يتبعهما الفتيان على خيولهم ... صادفاها على الطريق ...... "عالية" الراعية البدوية تمشي خلف قطيعها من الماعز والأغنام متجهة نحو الواحة...لا يظهر منها غير عينين جميلتين مكحلتين تطل منهما الدهشة والعجب توقفت مع القطيع وتوقف الركب.. صخر: اسمها مهرة.........ستعيش بضعة أيام في البيت الصغير فوق التل. عالية: إنها صغيرة.......كم عمرك؟! مهرة: ثمانية عشر عاماً. عالية: لوحدك؟!!!! مهرة: نعم. أطلت "عالية" على صخر بعينيها وعلامات الحيرة والإستفهام تعلو وجهها فابتسم لها تلك الإبتسامة الصافية الرائقة وأغمض عينيه كأنه يقول لها......فيما بعد سنتحدث وأخبرك عنها. تركتهم ينطلقون نحو البيت وظلت تتابعهم وآلاف الأسئلة تقتحمها.................
---------------------------قطيع الماعز الصغير يعرف طريقه.......يسير نحو الواحة البعيدة مسترشداً بأشجار نخيلها التي تلوح في الأفق كالعمدان الخضراء المتوجة. وسارت"عالية"خلف القطيع هائمة شاردة تحرك عصاها في كل الأتجاهات بلا معنى وعيناها مثبتتان على الماعز الصغيرة ولكن عقلها الممتلىء بالأفكار يأخذها بعيداً في الإتجاه المعاكس، يأخذها لذلك البيت الخشبي فوق التل الصغير. تذكرت تلك الحكايات المخيفة التي كانت تحكيها الجدة فاطمة عن ذلك البيت ، كانوا أطفالاً يعشقون الغموض والألغاز وينطلقون من القبيلة خلسة إلى البيت يلهون حوله وداخله ، ولكن الجدة حذرتهم: كان يسكن في هذا المنزل رجل.......كان شيطاناً كبيراً مخيفاً .......وكان غريباً جاء إلينا من مكان بعيد ثم أعجبته فتاة جميلة من القبيلة وأخذها بعيداً ولم تعد منذ ذلك اليوم....... وتسألها "عالية" الصغيرة: - لماذا أخذها بعيداً ؟!!! - لأنه شرير - وهل كل الأغراب مثله؟!!!!! - نعم......... كانت تخشى كل الأغراب....كانت تخشى المنزل......كانت تذهب إليه فقط مع "صخر" وهم أطفالا صغارا يلعبون مع باقي صغار القبيلة لعبة الأستغماية فيختبئون بين جنبات المنزل وحوله......بجوار صخر كانت تشعر بالأمان والحماية منذ الصغر، ثم كبرت وصارت ترعى الماعز ، تلك المهنة التي ورثتها عن والدها الذي توفى هو وأمها وتركاها في رعاية شيخ القبيلة ، وكبر هو ليكون فارس فرسان القبيلة ووريث جده على زعامتها بعد أن توفى والده ...وكبر معها إحساسها بالآمان في وجوده وكبر معه إحساسه بالمسئولية تجاهها......
منذ أن شبا عن الطوق لم يعودا يذهبان لذلك المنزل ....بالنسبة لها مازال الخوف الصغير الطفل بداخلها رغم مرور السنين،ومازالت الجدة فاطمة تحيا وتلقي بنفس القصة على أسماع الأطفال في القبيلة وتجلس "عالية" أوقاتاً تسمعها وتنظر لوجوههم البريئة وذلك الرعب يطل منها وتبتسم..... لقد كانت مثلهم ...ثم تسرح بعيداً تفكر في خوفها،ثم تتعب من التفكير وتنطلق بحثاً عن "صخر" لتطمئن على عودته سالما من جولاته في الصحراء ... تنهدت وهي تتابع الغنمات بعينها وخيالها سارح وراء مهرة التي تمتطي الجواد مع صخر.......... وصلت الواحة وإنطلقت أغنامها نحو البئر الكبير وهي خلفهم،جلست على الأرض وهي تلملم ثوبها الفضفاض ذي النقوش والزخارف الملونة ، وأقبل عليها سكان الواحة يطلبون ألبان ماعزها......... - كيف حالك يا عالية؟ أفاقها صوت "حسان" من أحلامها.......جلس بجوارها وخطف العصا من يدها يهش بها يميناً ويساراً ....... - ماذا تريد؟!!!!! نظر لعينها المكحلة خلف النقاب المطرز وهو يقترب منها: أريد أن أكون بجوارك. دفعته بعيداً عنها فسقط على رمال الصحراء وخطفت العصا من يده ورفعتها عالياً وهي تصيح متوعدة: - إذا لم تعد لعقلك أعدته لك. ابتسم ساخراً: - رأيت صخراً يمتطي جواده مع حسناء صغيرة........ترىماذا حدث لقصة العشق بين عالية الراعية وحفيد شيخ القبيلة؟ همت أن تنزل بعصاها لتسقط على وجهه الساخر فهب من وقعته وأمسك يدها بقوة ونظر في عينيها المحكلة بعناية ودقة خلف النقاب: - تحبينه يا عالية....طموحك عريض أيتها الراعية. هل تطمحين أن تكوني زوجة زعيم القبيلة في يوم ما......سنرى. مط شفتيه وبصق أمامه وسار يضرب الرمال بقدمه في كل إتجاه.......وهي تشيعه بنظرات غاضبة والدموع تحتقن بين أهدابها الطويلة---------------------------------------دفع صخر باب المنزل الخشبي فوق التل الصغيرة ودخل،أما مهرة فقد وقفت في الشرفة حولها نباتات الصبار تنظر للظلام في الداخل برهبة وصمت ......... فتح صخر النوافذ الخشبية فملئ النور الفضاء الصغير للبيت ونظر لمهرة مبتسماً كأنه يدعوها للدخول...... تقدمت في خطوات مرتعشة بطيئة تتحس الأرض الصلبة وتتواتر نظراتها بلا هدف في كل الأنحاء ورموشها الطويلة تهتز ........ وقع بصرها على اللوحات المنتشرة في الأرجاء والتي غطاها الرمل الأصفر....ذلك الفراش الصغير يرقد في ركن وطاولة خشبية تحتل منتصف الغرفة...... نظر لها صخر بإشفاق: المكان يحتاج لتنظيف ،سأبعث لك فتاة من القبيلة لتساعدك ....... إتجهت نحو اللوحات ومسحت عن أحدها الذرات الصفراء......ألوان أبيها تطل كأنها ترحب بها في منزله الخاص....... - في الداخل مطبخا ًصغيراً وحماماً ......المياه الحلوة سيحملها لك أحد الفتيان من الواحة كل يوم في الغروب...... الدموع تتجمع في عينها ولكنها تأبى الإفصاح عن نفسها....... في صوت منخفض تقول: أريد أن أكون بمفردي لو سمحت........ نظر لظهرها تتدلى عليه ضفيرتها الطويلة وعيناه تحمل نظرة جادة متفهمة......تركها واتجه للباب...... لحقت به تسأله: هل قبيلة جبران قريبة من هنا؟ نظر لها بتعجب ودهشة: إنها قبيلتنا......هل تعرفين أحداً من القبيلة؟ نظرت له في صمت قصير وهي تتأمل ملامحه مرة أخرى .... - هل كنت تعرف أبي؟ - أسمع عنه ولكني لم أره.. - هل يعرفه أحد من كبارالرجال في قبيلتكم؟ - ربما...لماذا تسألين؟ - لقد سمعت عن قبيلتكم من أبي وأريد زيارتكم في يوم ما إذا سمحتم لي...... إبتسم :أهلاً بك.......ولكن أين والدك ؟ - مات..... ---------------- كانا يجلسان على الصخرة الكبيرة بجوار البئر المهجورة .......نظراته جادة وسط قسمات وجهه الأسمر...فرسه الأشهب يداعب الماعز الصغيرة والشمس توشك على الغروب......... حدثها عن "مهرة"........ - والدها كان يملك هذا البيت يوماً..........كان يعيش هنا منذ زمن بعيد.قبل أن نولد....روايات كثيرة وحكايات سمعتها عنه........يقولون أنه قد هرب مع فتاة من القبيلة ولم يتزوجها ،وآخرون يقولون أنه أحبها وأراد أن يتزوجها ولكن كل القبيلة رفضت أن يتزوج غريب ابنتهم فهرب معها ليتزوجا، وآخرون يقولون أنها ماتت فحزن عليها وقرر الذهاب بلا عودة حتى ينساها..........أقاصيص كثيرة لا تدري أيها حقيقة....... - وحكاية جدتي فاطمة....... يضحك وينظر لها بعينيه البنية : حكايات للأطفال....... تنظر له بعتاب يطل من عينها التي رفعت عنهما النقاب ...يحمل نظرتها وإبتسامته ويحول وجهه نحو الشمس الغاربة... - ولماذا جاءت مهرة؟!!! - لم تقل..إنها لا تتحدث كثيراً وإن كانت عيناها تحمل حزناً وحيرة.......إنها تبحث عن شيء....... - إنها جميلة ورقيقة......صغيرة على الحزن. - أعتقد أنها وحيدة . - لقد أحببتها...شيء فيها جذبني لها منذ وقع نظري عليها....ربما حزنها الواضح... أطرقت في صمت......شاركها في صمتها للحظات وهو ينظر للأفق البعيد........ - هل ترعينها؟!!! - كيف؟ - اذهبي لها كل يوم.....اعطيها لبناً واسأليها ربما تحتاج شيئاً ما - أنت مهتم بأمرها....لقد أتت معك من الواحة. نظر في عينها نظرة صافية رائقة كالسماء من حولهم... أشاحت بوجهها:- إنها جميلة.........تختلف عن بنات القبيلة. تنظر نحوه فتقابل عينه التي مازالت تتأمل عينها المكحلة بعناية ...تهرب من نظراته....تنهض بنشاط وتضع نقابها : يجب أن أعود....الماعز تحتاج للراحة وأنا كذلك... يركب جواده وينطلق في الصحراء، يعشق ليلها وهي تخشى عليه ذئابها ولكنها تثق في عودته، ودائماً يعود.

0 comments:

 
template by suckmylolly.com flower brushes by gvalkyrie.deviantart.com