الجمعة، ١٧ أكتوبر ٢٠٠٨

تابع (البيت الخشبي)

(13) وصلا القبيلة.....الكل كان في إستقبال الضيوف ورائحة الشواء تعبق في الجو...... نظر صخر لعالية مبتسما في صفاء : أعتقد أن مهرة تحتاج ثوباً يناسبها ..... يتركهما معا ...يرى الجدة فاطمة تجلس أمام خيمتها. وحولها الأطفال كالعادة ، ولكن نظراتها كانت تسير مع عالية ومهرة......أقبل عليها ... - مساء الخير يا جدتي..... - مساء الخير يا بني...من تلك الفتاة التي جاءت معكم - اسمها مهرة يا جدتي....جاءت منذ يومين وتقيم في البيت الخشبي نظرت له الجدة وإرتعاشات تلمع في عينيها وتبدو على ملامح وجهها العجوز المتغضن - البيت الخشبي؟ - نعم يا جدة...تقول أنه منزل والدها.... تشرد الجدة وتصمت ... يبتسم صخر في عطف وإشفاق ويربت على كتف العجوز: - هل تصدقين فعلا تلك الحكايات التي تحكينها عن ذلك البيت يا جدتي أم أنها مجرد حواديت تخيفين بها الصغار حتى لا يبتعدوا عن حمى القبيلة... تنظر الجدة في عينه بعمق وتسرح صامته ...يقبل يدها و ينطلق لرفاقه ..... كانت تقف في ثوبها البدوي المزين بالنقوش والزخارف والنقاب قد غطى ضفيرتها وملامح وجهها......بجوارها عالية في نقابها هي الأخرى.....مر بهما صخر ...توقف يتطلع للعيون ....إقترب منهما .... - هل تعلمان أن لكما نفس العينين...... نظرت كل منهما للأخرى وقالتا في وقت واحد : حقا... ضحك صخر: ربما يجب أن تعود مهرة لملابسها العادية حتى لا نخطيء بينكما.... طالعته عينان تحملان نظرات الغيرة والعتاب ...نظر لصاحبتها مبتسما في صفاء : - عالية ...خذي مهرة للجدة فاطمة... ضحكت مهرة ورفعت النقاب عن وجهها: إذن كيف عرفت أن تميزنا عن بعضنا.... نظر لها صخر مبتسما: لا يمكن أن أخطأ عالية.... إنطلق مبتعدا وترك مهرة تتأمل عينا عالية وهي تتبعه وبها تلك النظرة الخاصة التي لم يستطع النقاب إخفاءها......إبتسمت ونظرت خلف صخر ولاح لها في الفضاء على أضواء النيران البعيده ملامح أحمد.. - صخر يرى أنني أشبهك..... تصمت عالية......تنظرلها مهرة: القلق في عينيك......هل تخشين أن يحبني؟ تنظر لها في رعب فتضحك مهرة ضحكة صغيرة: لن يفعل .....أنا أيضاً لن أفعل صمتت عالية ... مهرة سرحت ببصرها نحو الأفق الأسود ..... - هناك عند البحر تركت شخصاً ...هو خفقات قلبي الوحيدة... وصمتت كأنها أفرغت كل ما عندها من كلمات وصوت المنشد في أذنها يذكرها بيوم المولد...عادت لشاطيء البحر بخيالها السارح... - مهرة....... فزعت مهرة على صوت عالية : نعم.... - أين ذهبت....لقد سرحت بعيداً ...... ثم تداركت عالية نفسها وقالت: أعذريني ،لا أقصد التدخل فيما لا يعنيني... نظرت لها مهرة في صمت..... - كيف تفهمين اللوحات..... - تقصدين لوحات والدك؟ - نعم... - أنا لا أفهمها فقط أحس بها...... - ولماذا لم أستطع أنا ذلك.....إنه أبي.... - ربما تبذلين جهداً أكثر من اللازم في ذلك.....دعي الأمور للطبيعة فهي كفيلة بحل كل شيء.... - كلامك جميل.....أين تعلمتي ذلك..... - في الصحراء......وسط الرمال والهضاب وتحت السماء الزرقاء ......وربما من الماعز ضحكت مهرة: من الماعز.....تصورت أنك ستقولين من صخر.... نظرت عالية تجاه صخر ولمعت عينها: لقد علمني الكثير ولكن ما نتعلمه من البشر أقل بكثير مما نتعلمه من الطبيعة....إنها الفطرة التي خلق الله الكون عليها والفطرة لا تخطأ...... سارتا معا متجهتين حيث تجلس الجدة فاطمة.... - كيف أحببت "صخر"؟ - لست أدري........كنا معاً صغاراً وكبرنا ووجدت كل حياتي وذكرياتي تتصل به...... - والدك صديقه. - كل أهل الواحة يمتون بصلات قربى لبعضهم البعض وكانت تربط والدي ووالده هذه العلاقات ولكن ما كان يربط بينهما من صداقة وعشرة أقوى بكثير من كل رابطة دم يمكن أن تجمع بينهما..... لقد خاطر أبي بنفسه لينقذ والد صخر عندما هاجمته حية سامة في غفلة وتلقى والدي اللدغة وهو يحاول إبعادها ولكن السماء لم تكن قد قررت أن يموت بعد فعاش وظل والد صخر يحمل له هذا الصنيع. وعندما توفى والدي ظل والد صخر يرعاني حتى جاءه النداء العلوي وفارق هذه الحياة ليلحق بصديقه . - أنت وصخر أيتام الأب مثلي..... - وأيتام الأم أيضاً ......ماتت أمه وهي تلده وماتت أمي بعد وفاة أبي بعام ....كان عندي ستة سنوات - أمي أيضا ماتت..... - هل تعرفين يا مهرة ربما لا نشبه بعض في الملامح فقط ولكن في أشياء أخرى أيضاً .... الجدة فاطمة تجلس وبجوارها إحدى الفتيات تدلك ساقها بدهان..تدخل عالية وترفع نقابها ثم تقبل على الجدة تقبلها...خلفها تقف مهرة تنظر للجدة مبتسمة في ود .....تتعلق عينا الجدة بوجه مهرة....تمسك عالية بيد مهرة وتقربها من الجدة: هذه مهرة يا جدتي..... تهمس الجدة في وهن: مهرة؟ تقترب مهرة وتجلس بجوار الجدة: كيف حالك يا جدتي...... تتعلق عينا الجدة فاطمة بوجهها تتطلع فيه وهي صامتة شاردة...تكمل مهرة مبتسمة : - عالية محظوظة أن لها جدة طيبة مثلك ترعاها...هل تعلمين يا جدتي ،أنا مثل عالية يتيمة الأم والأب...ولكني لا أعرف أهلاً آخرين غيرهم ...عالية حكت لي عنك وكيف أعتنيت بها ....كم تمنيت لو كان عندي أهل مثلك ... تبدو علامات من الإرهاق والوهن على الملامح المتغضنة...تمسك عالية يد الجدة وتسألها في قلق: هل أنت بخير يا جدتي... تلمس الجدة وجه مهرة بيدها العجوز ...تنظر مهرة في عين الجدة وحالة من الشك تتلبسها... - هل أذكرك بشخص ما يا جدتي؟ تبعد العجوز يدها في بطء وتظل تنظر في هدوء صامت..... - ربما أشبه شخصا تعرفينه أو عرفتيه من قبل....هل هي إمرأة...هل تعرفين إمرأة تشبهني ؟ تشيح الجدة بوجهها وقد زادت على ملامحها إمارات التعب والجهد...تمسك مهرة بيدها وتنظر لها مستعطفة وقد بدأ الأمل يدب في روحها : أرجوك أخبريني ..فربما تكون تلك المرأة التي تشبهني أمي.....إني أبحث عنها...أنا.. قاطعتها الجدة وقد خرجت أخيرا عن صمتها: كيف لا تعرف بنتا أمها؟ - مات أبي وأنا صغيرة ولم يخبرني عنها...ولكني أملك العقد... - أي عقد؟ - عقد من العقيق الأحمر..... إنه.. - أين هو؟ - في البيت الخشبي....هل تريدين رؤيته.....سأذهب لأحضره... وقفت مهرة وهمت بالخروج فصاحت بها عالية: لا يمكن الذهاب الآن الليل قد حل والطريق طويل...صخر لن يوافق.. - ولكن.. - نذهب غدا يا مهرة...في الصباح...أليس كذلك يا جدتي.؟ نظرت مهرة للجدة التي كانت تطالعها ثم حولت عينها وقالت بصوت ضعيف واهن: خذي الضيفة يا عالية ..أنا متعبة وأريد أن أنام.. إقتربت منها مهرة : ولكنك لم تقولي لي شيئا.. أعطتها الجدة ظهرها وقالت في الوهن: الله هو العالم يا بنيتي...الله هو العالم..أتركوني الآن.. أمسكت عالية زراع مهرة وخرجتا وكل كيان مهرة ينتفض...... - إنها تعرف شيئا يا عالية وتخفيه.... - ليس أكيدا...إنها فقط متعبة قليلا....بالإضافة أن لديها موقف من ذلك البيت ومن كل من يسكن فيه ومن الأغراب لقد كانت تحكي لنا حكايات مرعبة ونحن صغار حتى لا نذهب هناك......صخر يقول أنها خرافات ولكن ربما هي تصدقها ولذلك تخشاكي.. ظهر التصميم في عين مهرة: يجب أن أذهب غدا للبيت لإحضار العقد.. وسط الصحراء وبعيداً عن العيون متخفية بالنخيل حولها كانت تلك العشة الصغيرة تقبع هناك في الظلام و الصمت ....نور ضئيل يتسلل منها ويضيء مساحة صغيرة حولها .... شبح متلفح بالسواد يقترب منها بخطوات حذرة وهو يتلفت عن يمينه ويساره .....فتح الباب سريعاً وهو يغلقه خلفه في سرعة بعد أن دخل..... صوت حسان يأتي من الداخل : أنا قادم..... كان المكان صامتاً هادئاً يخلو من البشر وتلك النرجيلة بالقرب من الكراسي المتراصة على بعضها البعض ينبعث منها دخان خفيف يعبق به الجو ويُشم فيه رائحة تسري بالخدر في الأعصاب.... ظهر حسان وهو يعدل من ملابسه وما إن رأى القادم حتى غابت الحماسة عن ملامحه: - أنتِ!!!! رفعت" قمر" العبائة السوداء عنها وظهر ثوبها الزهري القصير ووجهها الذي إمتلأ بالألوان ويخفي خلفه ملامح ثلاثين عاماً من العمر وقد تبعثرت خصلات شعرها عليه...... ابتسمت وهي تنظر للمكان الخالي بسخرية: - أين الناس ؟ جلس على أحد الكراسي ومد يده بمبسم النرجيلة في فمه : - اليوم إجازة..... نظرت له بتعجب ،أقتربت منه والنظرة الساخرة تملأوجهها وجسدهايميل مع كلماتها يميناً ويساراً : - هل اليوم هو الجمعة يا سيدنا أم أنه الأحد يا خواجة ...... نظر لها بطرف عينه وبصق ثم أكمل سحب الدخان من نرجيلته دون أن يرد عليها. إستفزها تجاهله لها : - ما الحكاية؟ .....هل هناك شغل اليوم أم لا..... - لا.... - ولماذا لم تتكرم جناب حضرتك وتخبرني ...... - لم أقرر ذلك إلا اليوم ومن ساعات قليلة فقط.... - لماذا.... - أنا حر.... - وأنا لست الجارية الخصوصية وأنت تعلم جيداً كم أعاني كل يوم حتى أصل لهذا المكان.... - لم أغصبك على شيء ،أنت من طلبت العمل.... ترك النرجيلة ووقف في مواجهتها ونظراته النارية تلفح وجهها: - اليوم بالذات لا أرغب في سماع كلامك الممل .......أريد ذهني خالياً تماماً لأفكر.....إذا رغبت البقاء فكوني كالهواء لا أشعر بك وإلا فلتذهبي كما جئت ولا تعودين إلا إذا طلبتك....... تنظر له في غضب ، أسرعت نحو الباب وخطفت العباءة وفتحته مسرعة بالإنصراف...... ظل وحيداً .......ينظر للباب المفتوح والطريق المظلم أمامه يفتش بعينه عن أي آثار لها في الظلام..... ذهبت كما أراد .....جلس على الأرض خارج العشة مستنداً بظهره لها... صورة مهرة تتداخل مع خيالاته.... قهقه ضاحكاً وهو يتخيل مهرة في ملابس قمر ووجهها الملون: بدلاً من أن تلقي بالألوان على رسوماتك ألقيها على وجهك يا مهرتي الصغيرة... ترى من أين لك بذلك العقد الجميل؟........ لست في منزلك الخشبي الآن......أستطيع بكل سهولة الذهاب والحصول على ما أريد ، ولكن هذا يجعل الأمر سهلاً جداً ......كنت أتمنى وجودك هناك حتى أستطيع تعليمك درساً لا تنسيه...... فكر قليلاً : ربما أستطيع أن أعلمك هذا الدرس في وقت آخر........ ضحك وهو يهم بالوقوف........أغلق باب العشة وسار مترنماً بأناشيد الصحراء ......ومن خلفه كان شبحاً يرقبه... ------------------- كانت تسير في خطوات بطيئة مرتكزة على عصاها الخشبية الغليظة....الجدة فاطمة كانت تتجه حيث إعتاد الشيخ صابر زوجها و زعيم القبيلة أن يجلس في هذا الوقت... كان الليل قد إنتصف وكانت النار المشتعلة في الحطب تضيء الخيمة والجد جالس في منتصفها يدخن نرجيلته .. - تلك الفتاة...مهرة...هل رأيتها - من بعيد مع عالية - أظن أنها هي...تشبهها لحد كبير... صمت الشيخ وحسيس النار يمليء السكون مع أصوات الرجال الجالسين حولها يتندرون ... - هل تظن ذلك أنت أيضاً ؟ يظل على صمته ..ينفس دخان نرجيلته في هدوء - لماذا الصمت...لو أنها هي فيجب أن نتحدث.. نظر لها وفي عينه غضب عظيم... - لا يوجد ما نتحدث عنه يا فاطمة.. - ولكنها قد تكون ... - فاطمة...ماذا حدث لك ...دائماً كنت تضيقين ذرعاً بالغرباء وتقصين على الأطفال ما يخيفهم وتقولين دائماً أنهم سبب كل بلاء...إنها غريبة وستذهب كما جاءت وينتهي كل شيء.. - لو أنها هي فلن تكون غريبة... - أصمتي يا فاطمة...

0 comments:

 
template by suckmylolly.com flower brushes by gvalkyrie.deviantart.com