(12)
كانت عالية قد إنتهت تقريباً من جولتها في المرعى القريبة وعادت مرة أخرى للواحة عند الغروب تلتمس بعض طالبي اللبن قبل عودتها للقبيلة...كانت أفكارها سارحة في مهرة....منذ رأتها وهي تشغل عقلها....
- عالية..........
استيقظت من أفكارها وذكرياتها على صوته العميق ينادي عليها........كان يركب جواده الأشهب ويركض نحوها قادماً من عمق الصحراء........سارا نحو الواحة
-كيف حالها؟.
- من؟
- مهرة.
- بخير.... أود لو أفهمها ولكنها لا تعطيني فرصة.....أتمنى لو أعرف سرها ربما أساعدها.
يستمع لها في صمت.
تنظر بجانب عينها وهي تسأله في خبث:
هل حقاً لا تعرف عنها أكثر مما قلت؟ ألم تخبرك بشيء؟!!!
- لا.......
تثق به، تعلم أنه لن يكذب عليها وإن أخفى شيئاً فدائماً يكون لحكمة قوية.
وصلا الواحة.......ركضت أغنامها للمكان المعتاد بقرب بئر المياه الكبيرة. أنطلقت خلفهم وتركته واقفاً مع ذلك الخواجة الإيطالي القادم مع رفاقه لزيارة الواحة.
ظلت ترقبه من بعيد وهو يتحدث وعيناها تلمع خلف النقاب.
- كيف حالك يا عالية؟
كان حسان يحوم حولها من جديد كالذئب الجائع يحوم حول الأغنام...
لم ترد عليه...تجاهلت وجوده ليس فقط كرهاً له ولمطاردته لها ولكن لأن صخر هناك يقف قريباً منهما وهي لا ترغب في إيذاءه بحديثها مع هذا الحسان ....هي تعلم جيداً موقف صخر منه منذ أصر على طرده خارج القبيلة بسبب أعماله وأفعاله... فهو لا يتورع عن الإشتراك في أي عمل دنيء أو مشبوه وكثيرا ما جاءت الشرطة في طلبه إشتباها في جرائم سرقة ونصب حدثت للسائحين المترددين على الواحة وإن لم يثبت عليه شيء حتى الآن...وكان صخر يقضي كل وقته في محاولة جذب السياح للمكان وتعريفهم به تاريخيا وجغرافيا وتعريفهم على عادات وتقاليد البشر الذي يقيمون في الواحة ويستضيفهم وينظم لهم رحلات للصيد والتجوال في الصحراء والتخييم في الأماكن الساحرة فيها وأستطاع بذلك أن يخلق فرصة لجذب المزيد منهم وتوفير مورد جديد للقبيلة يعين من فيها على الحياة ثم يأتي حسان بأفعاله مع السياح وبتلك السمعة التي يعطيها للقبيلة وللواحة ليهدد كل ما يفعله صخر ويهدد كل المجهود الذي يقوم به...لم يتردد صخرفي طلب طرده من القبيلة في جلسة عرفيه ضمت شيوخها وعلى رأسهم جده ووافقه الجميع على ذلك..ورغم هذا فقد سمح له صخر بين الحين والأخر بزيارة أمه ليس رأفة به ولكن بها فلم يعد لها أحد في الحياة غيره بعد دخول زوجها السجن منذ أعوام بتهمة الإتجار في الحشيش...
ولكن حسان يكره صخر لذلك...يكره كلمته المسموعة بين أفراد القبيلة ويكره إلتفافهم حوله ..يكره طرده له بل يكره سماحه له برؤية أمه....والأهم أنه يكره إستحواذه على مشاعر عالية وحرصها على تجنب الحديث معه أمام صخر ...
لمح حسان صخراً يرمقه من بعيد ...سخرية العالم إرتسمت على وجهه كأنه يحاول صفع صخر بها...
ثم لاحت له فكرة شيطانة كعادته ...مد يده سريعاً وشد نقاب عالية عن وجهها...لم تدري الراعية إلا ويدها مرفوعة بالعصا لتنزل بها على وجهه الأسود .... وقبل أن تنزل عالية عصاها لتسقط على وجهه الساخر أمسك "صخر" يدها.
نظرت له وعيناها يملؤها الغضب ولكنه أنزل يدها في هدوء ونظر لحسان الذي تملكته الرهبة وإن حاول أن يظهر عكس ذلك....أراد أن يثير صخراً وأن يقتل غرور الراعية فأقدم على فعلته الجبانة ...ولكنه رغم كل شيء جبان خسيس...تمنى لو يشتبك معه صخر فتواتيه الفرصة ليشفي غيظه منه بضربه وإهانته أمام أصدقاءه من الأجانب....ولكن صخراً فارساً له أخلاق الفارس ...إكتفى برمقه بكل حزم وصلابة..أن يقف أمامه شامخاً معتزاً بما هو عليه ....كان يفهم حسان جيداً ولم يكن من الغباء ليمنحه ما يريد....جاء صوته هادراً واثقاً :
- من يفعل فعلتك تقطع يده...لا تجعلني أهدر دمك يا حسان بأفعالك الخسيسة...ولا تستنفز حلمي عليك...
كان صخر مليئاً بالإحترام والهيبة وحسان يخشى الأحترام فهو يفتقر لهذه الميزة ... وقف أمام "صخر" ولم ينطق بحرف......فقط أنطلق مبتعداً والغضب يملكه....
سار حسان مبتعداً والغضب والغيظ يحتل نفسه.
- تحبينه يا عالية....طموحك كبير أيتها الراعية. هل تطمحين أن تكوني زوجة زعيم القبيلة في يوم ما......سنرى.
مط شفتيه وبصق أمامه وسار يضرب الرمال بقدمه في كل إتجاه.
سار والأفكار تلعب برأسه يبحث عن طريقة يصل بها لهدفه.......لعالية.....
-------------------------
كان الليل قد أقبل وقد أنهى صخر جولته في الواحة مع صديقه الإيطالي ورفاقه.
من بعيد لمح "عالية" تحلب إحدى العنزات لسيدة من سكان الواحة . كان يراقبها وعيناه تبتسم دون أن تراه....
منذ كانا صغاراً وهو يرى والده رفيق لوالدها...... وهكذا منذ الصغر كانا معاً كما كان أبويهما........"صخر" و"عالية" الصغيران......يلعبان معاً وينطلقان في الصحراء ويستمعان لحكايات الجدة فاطمة ويحلقان حول الأم "نعمة" والدة عالية وهي تطهي الطعام ويخطف صخر الخبز الساخن ويجري به مسرعاً وخلفه عالية تضحك وأمها تصرخ فيهما وتهددهما بأن تقول لشيخ القبيلة .......
يجلسان بعد التعب والجري على الصخرة عند البئر المهجور ويقتسم صخر معها الرغيف الساخن وتكون قد خبئت بعض ثمار الطماطم من جدتها فتعطيه منها ويتناولا طعامهما في هدوء لا يعكر صفوه إلا "حسان"...
تذكر "حسان" فتغيرت ملامح وجهه.
مازال يتابعها بنظره وهو يجهز فرسه للعودة .......سار نحوها ......
- هل ستعود للقبيلة مع رفاقك؟
- نعم...
- سألحق بك بعد أن أنتهي من حلب الماعز......
وقف أمامها متردداً فنظرت له بعينها المكحلة : هل تريد شيئاً .....
- سأنتظرك...لا ينبغي أن تعودي في هذا الظلام وحدك...
منحته إبتسامة من خلف نقابها لمعت لها عيناها كنجمة في الليل...
سألته: هل ستمر على مهرة؟
- نعم.....
- حاول أن تقنعها بالحضور قليلا للقبيلة لتسهر معنا ،منذ جاءت وهي تجلس وحيدة ولقد حاولت معها مرة فلم تتقبل كلامي . ربما تستطيع إقناعها، أعرف أنها تثق فيك.
وسط كلماتها التي توحي بإهتمامها بمهرة ، لمس تلك اللهجة التي تحمل الشعور بالغيرة تنطق بها كلماتها فابتسم إبتسامته الصافية الرائقة ومضى لرفاقه.......
عادت تحلب العنز وأفكارها طليقة تحلق في الصحراء........
----------
استيقظت مهرة على صوت دقات على الباب الخشبي ، كان النوم هو مهربها الوحيد من أفكارها . فتحت الباب وشاهدت "صخراً " يقف وخلفه أحد الفتيان حاملا قربة المياه....وسمعت صوت الماعز فخمنت وجود عالية وإن كان الظلام دامساً بالخارج فلم تتبينها...
ابتسمت في راحة وهي تدعوه للدخول.......أفرغ الفتى قربة الماء وخرج .
لمح صخر صورة"أحمد" على سريرها .......التقطها رأته من مكانها ينظر للصورة.
- إنه صديق قديم......
ابتسم دون تعليق وأعطاها الصورة فأعادتها لحقيبتها.......
- "عالية "تدعوك لزيارة القبيلة والسهر معنا الليلة.......عندنا ضيوف وسنقيم إحتفالاً لهم ونريدك معنا.
- حقاً......
- سأجعلك تمتطين الفرس وسنلبسك زينا وسيعجبك الثريد جداً ......
في عناد قالت: لست طفلة صغيرة لتغريني بهذه الأشياء.
ضحك وهو يقترب منها: حسنا ًأيتها الطفلة الكبيرة، هل تأتين معي........
ابتسمت : هذه فكرة عالية؟....
- نعم....
- وأنت؟ ما رأيك؟!!!!
- نفس رأيها....
- وأنا موافقة...... لقد فكرت في زيارة قبيلتكم منذ وقت طويل ....
إنطلقا في الظلام تنيره النجوم والقمر في التربيع الثالث....كانت تسير مع عالية وصخر وأمامهما الأغنام وخلفهما الرجال على خيولهم... تذكرت شيئاً ..
- من يكون حسان هذا ؟
نظر لها صخر ...
- لماذا تسألين عنه؟
- إنه يفاجأني بزياراته منذ قدومي ولا أشعر نحوه بالراحة........
- حسان هو بقعة الشر والسواد التي لا بد منها حتى يكتمل للحياة معناها ......
لم يكن والده صاحب مكانة مرموقة في القبيلة ، بعد وفاته تزوجت والدته من قريب لها
كان يملك عشة على أطراف الواحة يستقبل فيه الأجانب القادمين لزيارة الواحة ويوفر لهم إحتياجاتهم من الطعام والخمر وكان يخدمهم طوال فترة وجودهم مطيعاً فلا يدع لهم فرصة لإثبات ولاءه وجودة خدمته إلا إنتهزها . و كانوا يجزلون له العطاء ويلقون له بالعملات الخضراء التي يعشقها. ورغم كل هذه الثروة إلا أنها كانت غالباً ما تعود لأصحابها على مائدة القمار وكان يصرفها على مزاجه الملتوي . كان حسان يعمل معه منذ أن كان في العاشرة من عمره ولكنهما كانا دائما على خلاف..وتعلم "حسان" كل شيء بمرورالوقت......ثم بدأ ينافس (جعفر) زوج أمه..
ولكن لم يحظى بالكثير فالأجانب كانوا يميلون لجعفر عنه فقد كانت لجعفر طريقة تجذبهم وترضيهم..
وفجأة هاجمت الشرطة العشة التي كان يديرها "جعفر" في الواحة...وقبضوا عليه بتهمة الإتجار في الحشيش..
وسجن وانطلقت الشائعات أن "حسان" هو من أبلغ عنه ليستولي على عمله وينفرد به ولكن لا أحد يستطيع أن يؤكد ذلك.
- هل من الممكن أن يكون هو من أبلغ عن زوج أمه؟
ردت عالية :
- لا أحد يعلم الحقيقة.......
- وماذا فعل بعد دخول جعفر السجن؟
أكمل صخر :
- أستأنف نشاط العشة .. يستقبل فيها الأجانب ويدير أعمال القمار في الخفاء وزاد على ذلك باستخدامه "قمر" الراقصة لتساعده في أعماله...ثم بدأت أخبار تسري عن سرقاته ونصبه على الأجانب..
وبدأت سمعة القبيلة تتأثر بإنتماءه لها فقمت بمساندة رجال القبيلة على طرده خارجها وأعلنا تبرأنا من إنتمائه لنا..
بعد أن أنهى كلامه نظروا أمامهم فلاحت لهم منازل القبيلة التي تتراقص نيرانها من بعيد....
0 comments:
إرسال تعليق