الثلاثاء، ١٤ أكتوبر ٢٠٠٨

تابع (البيت الخشبي )

(2) كانت الشمس في طريقها نحو الغروب...وكان يجلس في مكانه المعتاد على البحر.....فوق تلك الصخرة المرتفعة منطلقاً ببصره نحو الأفق ... يعود من سرحته القصيرة ويمسك بقلمه ويكتب: ( هناك حيث يقع الخط الأزرق الرفيع الفاصل بين عالم البحر وعالم السماء...كنت على موعد معها....صديقتي الشمس....وعدتني برحلة في عالمها....تابعتها تستيقظ من نومها ،تغسل وجهها في مياه البحر،ثم تصعد في ثوب نومها الأرجواني سريعاً بنشاط كالطفلة الشقية لتختفي خلف السحاب قليلاً قليلاً ....تبدل ثيابها سريعاً ثم تعاود الظهور في ثوبها الأصفر المتوهج...تتناول فطورها من مياه البحر وبعض فتافيت السكر الأبيض المتدلي من القبة الزرقاء ... ثم تنطلق نحو العمل.....) يتوقف عن الكتابة وينطلق ببصره متتبعاً حركة المياه والأمواج التي تضرب الصخور أسفله....يعود للكتابة: (تتابع صديقتي الأمواج التي تلعب وتلهو مع تلك الطحالب الخضراء أعلى الصخور ثم تنحسر عنها تاركة إياها منتشرة في نعومة وإنسياب على الصخور كشعور حريرية خضراء تنتظر الشمس لتلقي عليها بدفئها وحرارتها، ولكن الأمواج ما تلبث أن تفاجأ الطحالب المستكينة من جديد فتبعثرها وتصيبها بالإضراب قبل أن تتعب من مشاكستها وتنحسر ثانية مبتعدة لتتركها في هدوء لصديقتي الشمس تلاطفها وتدفئها....) - كنت متأكد أنني سأجدك هنا يا أحمد. ألتفت خلفه فوجد والده يقف ناظراً إليه.....جلس بجواره - قصة جديدة؟ - لا، مجرد خواطر... - لم تذهب اليوم للعمل..؟ - أخذت اليوم أجازة...أشعر برغبة في الراحة. - هل أنت مريض؟ - لا ولكن أرغب في فترة إستجمام ...لقد مضى وقت طويل على آخر إجازة لي وذلك البحث الذي نعمل فيه أرهقتني ، كما أني أرغب في الإستمتاع بنجاح روايتي الأولى. - هل ترغب في الخروج للصيد.؟ - لا سأبقى هنا أكمل كتاباتي. - حسناً سأراك في المنزل.... ....كان أحمد هو الأبن الوحيد لوالده – دكتور جمال - ولذلك فقد كان هو محور إهتمامه الوحيد وخاصة أن الأب يشعر أنه قد بذل الكثير من حياته من أجل أن يوفر له الإستقرار والجو المناسب للنجاح والنبوغ ، بعد أن إنفصل عن والدة أحمد منذ ما يقرب من إثنى عشر عاماً وإتفق الوالدين أن يعيش أحمد مع الأب ....منذ ذلك الوقت ودكتور جمال هو المسئول الوحيد عن ابنه أحمد...كرس كل حياته ووقته ليعوضه عن غياب أمه التي طلبت الطلاق وأصرت عليه...... أحس دكتور جمال وقتها بمرارة شديدة ....رفضت زوجته الحياة معه بعد كل سنوات العشرة الستة عشر ....إعلانها بكل جراءة وبساطة ووضوح أنها لم تعد تستطيع الحياة معه وأنها لولا إبنها الطفل لطلبت الطلاق منذ زمن طويل ولكنها فضلت الإنتظار حتى يكبر الفتى و يتحدد مستقبله ...قالت أنها لن تستطيع التضحية أو الإستمرار أكثر من ذلك وخاصة أنها تخلت عن كل أحلامها وطموحها الخاص من أجل أن تكون زوجته ومن أجل أن ترعى الصغير ....كانت تصغر زوجها بخمسة أعوام وتزوجها وهي في السنة النهائية بكلية الإعلام قسم صحافة...وبعد أن أنهت دراستها بعام أخذها وسافر للخارج فعمله يتطلب منه السفر للخارج للدراسة والتدريس....طموحه الخاص كان يناديه وكان لا بد أن تكون أسرته بصحبته فهو لم يتخيل يوماً قدرته على الإنفصال عن كيان المنزل والأسرة وخاصة في الغربة....أخبرته أنها لا ترغب في السفر وترغب في البقاء في الوطن وترغب في العمل ...ولكنه لم يفهم وقتها ، لم يظن أو يتصور أن تلك الرغبات بداخلها قد تشكل كل تلك الأهمية بالنسبة لها ....كان يحبها ولكنه فشل في فهم ذلك الجزء في تكوينها وشخصيتها ، تلك الرغبة في النجاح وتحقيق الذات بشكل منفصل عن نجاحه هو.. كانت بشهادة جميع أساتذتها موهوبة...لديها الحس الصحفي والحس الأدبي العالي الذي ورثه أحمد عنها ....قرأ لها في أيام إرتباطهما الأولى مقالات صغيرة في تلك الجريدة التي كانت تتدرب بها وقرأ بعض القصص القصيرة التي كانت تكتبها ولكنه كان غير مهتم بالأمور الأدبية وكان يقرأها مجاملة لها لا غير. كان يرى تلك المسألة بنظرة مختلفة ....يراها مجرد نوع من تسلية الوقت وتقضية وقت الفراغ ولم يتصور أن تكون لها كل تلك الأهمية بالنسبة لها ولذلك لم يفهم سبب رغبتها في البقاء وعدم السفر من أجل هذه الأمور التي لا بد ستجد لها من الوقت الكافي للتسلية بها عندما يستقران في تلك البلد الأجنبية. ولأنه لم يفهم وقتها كل ذلك ولأن أهلها ساندوا موقفه وهاجموها ولأنها إكتشفت أنها حامل في شهرها الثاني ....كل تلك الأسباب جعلتها ترضخ...وتصور هو أن رضوخها إقتناع ...ومرت السنين حتى حصل إبنهما على الثانوية العامة ونجح في الإلتحاق بتلك الكلية التي كان يتمناها ....كانوا قد عادوا للوطن قبلها بسنة للإستقرار فيه ومنذ عودتهم وهي تحاول أن تعوض ما فاتها ، ولكنه لم يفهم أيضاً ...كان قد تعود على وجودها في حياته بشكل معين...زوجته التي ترعاه وترعى بيته وإبنه وتقبع في المنزل معظم ساعات اليوم حتى يعود لها ....لم يفهم سبباً يستدعى أن تخرج من منزلها وتنشغل في عمل بلا مواعيد وتقضي معظم وقتها في الشارع وتترك بيتها وتتركه ...وعندما نشرت مجموعتها القصصية الأولى وبدأت الأضواء تسلط عليها ويتم دعوتها للندوات واللقاءات لم يتفهم ... تذكر يوم أن عادت من الخارج بعده بثلاث ساعات وكان قد ملّ من إنتظار عودتها وقرر وضع حد لهذه المسألة. يومها فاجأته بقرارها بكل بساطة وهدوء...حدثته أن الحياة بينهما لن يمكن أن تستمر...أنها قد وجدت نفسها وبدأت تشعر بأهمية دورها وتحصد أول بذور موهبتها ونجاحها...أنها لن تستطيع بعد اليوم أن تعود لتقبع مرة أخرى في ركن منزوي من الحياة....أخبرته أنها تحترمه كثيراً وتقدره ولذلك تريد أن ينتهي هذا الأمر بهدوء....أخبرته أن السبب الوحيد في كل سنوات العشرة هو أحمد وأن أحمد قد كبر الان ويستطيع التفهم ومستقبله أصبح واضحاً ..... طلبت منه الطلاق وأصرت عليه وعندما هددها كمحاولة لإرجاعها عن موقفها بأن أحمد لن يعيش معها وأن من حقه أن يعيش معه، وجدها غير معترضة على هذا الأمر في حالة إذا وافق أحمد. ولدهشته وافق أحمد على البقاء معه ....لم يتصور أبدأ أن يختاره أحمد بدلاً من أمه....كان قد أصبح شاباً في السادسة عشر من عمره ولكنه كان شديد الإرتباط بها منذ صغره وبعيد لحد ما عن والده ...فوالده دائم الإنشغال وأمه هي التي تقضي معه كل الأوقات وترعاه وتمنحه كل الحب بلا حدود...ولكن أحمد فجر الموافقة ونطقها بكل جمود وإصرار: - إذا كنتما ستطلقان فسوف أعيش مع أبي. لحظتها رأى على وجه زوجته علامات ظن معها أنها قد تتراجع عن موقفها المصر على الطلاق...ربما كان هذا هو هدف أحمد أيضاً عندما قال ما قال...ولكنها لم تتراجع.... سافرت للقاهرة وظلت هناك تعمل وتكتب ونجمها يلمع كل سنة عن الأخرى وتصل أخبارها لهما ....تحرص بصورة دائمة على الإتصال بأحمد ولكنه في كثير من الأحيان لا يرد أو يستقبل مكالماتها ويحدثها حديثاً جافاً مقتضباً . حاول الأب أن يدخل عالم أبنه ويحاول أن يفهم سبب ذلك الموقف الذي إتخذه من والدته .... - لقد تركتنا يا أبي. - ولكنك أبنها وهي أمك.....لقد إختارت حياتها ولكن أنت خارج الموضوع... - أنا كل الموضوع.....أنا أبنكما.... - وستظل كذلك....... - ولكنها تخلت عنا....تخلت عني.... - هذا كان شرطي عندما وافقت على طلاقها.. - كان يمكن أن تتراجع عن طلب الطلاق .... - كانت تريد حريتها وهذا حقها... - أنت تدافع عنها.... - أنا أفهمها .....لم تكن سعيدة معي .....هي أخذت حريتها وأنا أخذتك....أنت سبب سعادتي .... ولكن هذا الكلام وغيره كثير من الحوارات التي دارت بينهما طوال تلك السنوات لم تغير موقف أحمد ...وأصبح الأب يشعر أن واجبه ودوره مضاعف تجاه إبنه....رغبته في أن يسانده ويساعده حتى يحقق كل نجاح بحياته وأن يخصص له كل أوقات فراغه...أن يقترب منه ويفهمه ويحاول التعامل مع مشاعره وأحلامه....كل ما فشل في تحقيقه مع زوجته وكل ما فشل في تقديمه لها حاول بكل جهده أن يقدمه لأبنه.. وعندما عرف بطريق المصادفة أن أحمد يكتب وأن لديه ذات الموهبة التي تملكها والدته شجعه على الإهتمام بها وتنميتنها...يتذكر أنه أكتشف ذلك الأمر عندما دخل عليه حجرته فجأة ليسأله عن أمر ما فأرتبك أحمد وأغلق كراسة كان يمسكها وحاول إخفاءها ....وعندما أصر الأب على رؤية ما بالكراسة وجدها قصة....قرأها ورأى بها عطر زوجته يعود به للذكريات....تحدث مع أبنه وسأله عن سبب إخفاءه ما يكتب. - قد تغضب عندما تعلم أن ما فرق بينك وبين أمي هو نفس الشيء الذي أهواه. - أنت مخطأ يا أحمد....لقد إنتهى موضوع أمك بالنسبة لي ولم يعد له هذه الأهمية التي تظن...أما بالنسبة لك فأنا أول من يهنئك على هذه القصة البديعة وأريد منك أن تستمر ولكن بشرط. - ما هو يا أبي. - أن أكون أول من يقرأ كتاباتك...إتفقنا... - إتفقنا.... وأصبحا صديقين يسيران معاً في طريق الحياة ...وعمل أحمد في معهد الدراسات والبحوث التطبيقية في هذه المدينة الساحلية وإستمر في ممارسة هواية الكتابة وأصبح على الطريق لشهرة تماثل شهرة والدته التي لم يحاول يوماً أن يصارح من يعرفهم في الوسط الأدبي والثقافي بأنها أمه رغم شهرتها العريضة ورغم تلك المناقشات الكثيرة التي كانت تدور أمامه عن كتبها وأعمالها. كان يكتفي أن يقوم بدور المستمع فيها وإبتسامة سخرية ومرارة تعلو شفتيه دون تعليق. نظر في ساعته ....نهض سريعاً ونزل للشاطئ وأخذ يمد في سيره وقد تذكر تأخره على ميعاد مهم مع صديقه أمجد الشاعر...والشاعر هو لقب حصل عليه من جراء ممارسته للشعر ونبوغه في هذا المجال رغم كونه طبيباً ناجحاً في مجاله..وكان صديق أحمد الأقرب وكاتم أسراره.... نظر في ساعته مرة أخرى ، رفع نظره ولمحها....كانت تجلس على الشاطيء تنظر للبحر وضفيرتها الطويلة تتدلى خلفها ويظهر هاتفها النقال معلقاً في حزام بنطلونها الجينز الأزرق الفضفاض....كان قد تعود على وجودها هنا في ساعات الغروب ....لم يحدثها يوماً وإن كانت قد لفتت إنتباهه في جلستها وحيدة تراقب الأمواج....إستمد منها خيالاً رسمه في خطوط روايته الأولى ...كان يراها جزءاً من الشاطيء ....رماله وتلك الموجات التي تداعبها والنسمات الخفيفة وطيور البحر المحلقة في السماء....وهكذا خُلقت (هدى) الحالمة العاشقة في روايته...خيال قاصٍ نسجه حول فتاة البحر كما كان يطلق عليها...وكانت هدى في خياله تملك نفس ملامحها ...وجهها الهاديء الصامت، عيناها العسلية، وشعرها الكستنائي الطويل...ولكنه تصوره محرراً من قيود ضفيرته منطلقاً مع رياح البحر ... - بعد إذنك، هل أستطيع أن أستعمل تليفونك . نظر لها مبتسماً وعنده أمنية أن يسمع صوتها ....كان صوت (هدى) الخيالي يسري له مع جمل الحوار في الرواية صوتاً ساحراً حالماً رقيقاً ...كان يعيش في لحظات الخلق والإلهام بكل كيانه كأنها حقيقة .... نظرت له.... كان واقفاً وشعرت في جلستها بطوله الفارع وهوينظر لها كأنها قزم صغير.....ابتسمت رغماً عنها إحساس غريب يمر بنفسها للحظة ويأخذها بعيداً عن تلك الحالة التي كانت تعيشها منذ لحظات.... أعطته التليفون دون كلام وراقبته وهو يضغط أزراره : أمجد....آسف تأخرت عليك. أنا قادم في الطريق لا تذهب. شكرها مبتسما ًومضى سريعاً .....كان يضحك في أعماقه من خياله....إستغرقتها هي أيضاً غيبوبة من الضحك لا تدري له سبب...... كانت الفتاة هي مهرة....كانت تجلس كعادتها على الشاطيء تراقب صديقها البحر....فاجأها أحمد بوجوده ... ذلك الإحساس الغريب بالسعادة والضحك الذي مر بها عندما نظرت له وتابعته وهو يتحدث في هاتفها حتى شكرها وذهب لم تكن تدري له معنى....كانت تجلس تفكر بوالدها الراحل وتحاول أن تجد طرف خيط يساعدها لتصل لأهلها...لتعرف من كانت أمها حقاً ...تحاول أن تصل بنفسها لشاطئ من الأمن والرعاية والحب فقدتهم بفقدها لوالدها الحبيب... ثم فاجأها صوت أحمد.... لم تفكر في أمر ذلك الإحساس الضاحك كثيراً فقد عاد عقلها ينتزعها منه ويعود بها لوالدها وحياتها معه وأسئلتها الحائرة.

0 comments:

 
template by suckmylolly.com flower brushes by gvalkyrie.deviantart.com