يرتشف فنجان القهوة على مهل وهو يتأمل الشمس في رحلتها نحو الغروب ، أشعتها واهنة ضعيفة كعادتها في هذا الوقت من كل عام .،تتحرك نحو نهاية صفحة السماء رويداًرويداً تاركةً أصباغاًمن الألوان خلفها تختلط في تدرجات لا تدري حدودها الفاصلة ولا حدودها الواصلةوتلقي بظلال من أطيافها اللونية على السحب ...تلك القطع القطنية البيضاء السابحة في بحر الأصباغ والتي دائماً ما تقف حائلاً بينه وبين متابعة المشهد ،تتجمع وتتكاثف فتحجب القرص الواهن خلفها ثم ما تلبث أن تنقشع على مهل كأنه دهر لتفسح المجال للتأمل والمتابعة
كانت هذه إحدى هواياته الصغيرة التي تعينه كثيراً على نسيان متاعب يومه ومشاقه ، يجلس في كرسيه الهزاز الواسع العميق يرتشف القهوة ويحاول غزو عالم الشمس بنظراته المتأملة تاركاً عقله يسبح في عالم السماء أمامه خالياً من أي تفكير .ولكن أفكاره لا تتركه وحيداً مستمتعاً ،كان يعلم أنه لا بد أن يستعد لحضور الحفلة المقامة مساءاً في سفارة بلاده حيث يعمل بمناسبة احتفالات رأس السنة .تلك الحفلة لن تخلو من بعض الأعمال فهكذا هي الحفلات التي تضم رجال السياسة والدبلوماسية :مناقشات ومحاولات لعرض الآراء لا تخلو من مجادلات قد تتطور لفرض الآراء عندما يكون المتحدث صاحب سلطة عليا أو نفوذ عريض، والدبلوماسيةالتي تعلمها من عمله الطويل تقتضي المجاملة والمداهنة والتلاعب بالألفاظ والكلمات والكل يدخل في صراع مع الكل يخفيه بإبتسامة منمقة وإن كانت العيون تبدي ما تخفيه الصدور ،صراعات على الوصول لآعلى المناصب أكثر منها صراعات في سبيل تحقيق الغاية من هذا المنصب ،ومشاحنات تدور بداخل النفوس التي تعتمل كمراجل بينما يظل الظاهر بارداً صلباً صامداً في مواجهة كل المواقف ويتقبلها بإبتسامة دبلوماسية باهته أكثر من أشعة الشمس حين تغرب شتاءاً ،ونظرة العين التي تكاد تخترق من تنظر إليه لعلها ترى ما يختفي في دخيلته ومشاعره وأفكاره هذا فضلاً عن الصراعات الخارجية بين ساسة الدول وقوادها والتي يتصدى لها دائماً ويقف منها موقف الصدارة هذا الحشد من الدبلوماسية في الكلمات والنظرات والبسمات .كان هذا هو المعترك الذي يدور فيه صديقنا والذي ظل يدور فيه طيلة عشرين عاماً منذ دلف إلى هذا العمل وكانت هذه هي الأفكارالتي دارت سريعاً في رأسه وأخذته من جلسته المتأملة بعيداً عن عالم الشمس وأصباغها .
نظر في ساعته فوجد عقاربها تحثه على التخلي عن جلسته الهادئة وفنجان القهوة ومنظر الشمس الغاربة .ألقى نظرة أخيرة على لوحة الغروب وفي عينيه بقايا بريق متأمل ينسحب . وضع فنجان القهوة على الطاولة وقام إلى غرفته.
في تمام الثامنة كان قد أنتهى سريعاً من أرتداء ملابسه وجلس إلى مكتبه يدرس بعض الأوراق ،العمل يطارده حتى في الإجازات. ظل يقرأ أوراقه ويخط خطوطاً ويحدد عناويناً أو جملاً ويسجل ملحوظات ويبحث في كتبه وملفاته .دقت الساعة معلنة العاشرة وجاء الخادم يخبره أن السائق في انتظار خروجه.قام وتأكد من هندامه ثم انطلق في طريقه إلى السفارة التي لا تقع بعيداً عن مكان إقامته.
بدا الحفل هادئاً ،كل من توقع حضوره وجده حاضراً .الكل يرتدي نفس الوجوه الزائفة ،يبتسمون له في ود وهو يعلم ما خلف هذه الأبتسامات ولكنه يردها بالمثل دون أن يظهر ما يدل على ضيقه.لكم كان يود لو يسهر هذه الليلة في منزله بعيداً عن هذه المخلوقات الزائفةولكن واجبات العمل لن تمنحه مثل هذه الفرصة.أقبل يندمج في الأحاديث التي ظلت وستظل تدور حول نفس المواضيع والأحداث ،يحس بداخله بملل من هذه المناقشات المتكررة التي لا ييأس أصحابها من فتح بابها كلما سنحت لهم الفرصة.إنهم يتكلمون ويتكلمون ولا ييأسون من الكلام كأنهم خلقوا له دون العمل وإثبات الأفعال ،فلا خطوة جادة تحقق ما طرحوه أو ناقشوه .كلما أنتقل من مجموعة إلى أخرى يجد نفس الصورة ونفس الحوار ونفس الأحاسيس وإن أختلف موضوع المناقشة .أحس بالندم على حضوره ولكنه لا يحب أن يظهر ذلك ،لا بد أن يستمر في مجاراتهم حتى النهاية ،حتي تنتهي هذه الحفلة أم حتى ينتهي ذلك اليوم أم حتى تنتهي تلك الحياة ،هو نفسه لا يدري إلى متى.
كانت من عاداته أنه دائم التطلع إلى باب الدخول يتأمل المقبلين على الحفل ويبتسم في دخيلته عندما يصدق حدسه في حضور البعض والأستقبال الحافل الذي يجده بعضهم بمجرد دخوله والأستقبال الفاتر الذي يجده البعض الآخر.كلها سياسة وكلها حركات مدبرة ومحسوبة.كان يسأل نفسه في بداية عمله لما لا يرحبون ببعض الشخصيات في حفلاتهم ومع ذلك يدعونهم لحضورها؟!!! فهم فيما بعد أنهاسياسة ودبلوماسية :ترك بعض الخيوط وإن كانت واهنة تربط بين الأشخاص حتى إذا أضطرتهم الظروف يعملون على تقويتها لخدمة أهدافهم .قد تعود واهنة من جديد بعد تحقيق الهدف أو المصلحة وقد تظل قوية ،كل ذلك يتوقف على الأحداث القائمة والظروف الراهنة وغيرها من المصطلحات المعروفة في ذلك الحقل الواسع الشاسع .
بينما كان يختلس نظراته المعتادة لباب الدخول أحس بيد توضع على كتفه .التفت ليسمع الصوت المرح يقول:"عادتك القديمة التي لن تكف عنها ،تتذكر عندما كنا صغاراً كنت دائماً تهتم بمتابعة الداخلين والخارجين للمنزل والمدرسة وكل الأماكن.تركز على ملابسهم ،إيماءتهم،حركاتهم وكلماتهم.تفسر وتحلل كل كلمة وحركة وتبدأ في وضع تخيلك لهؤلاء الأشخاص وحياتهم.هل تتذكر؟".كان المتحدث هو أفضل أصدقاءه على الإطلاق ،بل هو الصديق الوحيد في هذا العالم المزيف الأبتسامة الذي يعيش فيه .كانا وما زالا متجاورين منذ أيام الطفولة في ذلك الحي الشعبي القديم .أينما يذهب أحدهما يذهب الآخر ،وأينما تريد البحث عن أحدهما تسأل عن مكان الآخر .لقد ظلا على هذه الحال حتى عندما قررا العمل فقد جاءت الظروف لتساعدهما على العمل في نفس المكان .تفرقا لبعض الوقت نتيجة لظروف العمل وأسفاره ومشاكله التي تطحن المرء فلا تدع له الوقت حتى ليفكر في نفسه ولكنهما أخيراً عادا للعمل معاً في نفس المكان ونفس البلد.تمنى لو يحتضن هذا الصديق الحق.كان يشعر بسعادة غامرة لوجوده في هذا المكان معه ولكنه تمالك نفسه فمثل هذا الفعل سيكون ملفتاً للإنتباه في مثل هذا المكان الذي تعود فيه الجميع على المشاعر الباردة .أكتفى بأن ضغط بحرارة على يديه وهو يبتسم ابتسامة صافية حقيقية حملت أحساسه بالإمتنان لتواجد صديقه.أحس الصديق بخبرته الطويلة بما يدور في نفسه ،ابتسم وهو يقول:"لكم كنت تكره هذه الأماكن التي لا تستطيع فيها التعبير عن نفسك ودخيلتك .هل تذكر عندما كنا نلعب معاً في منزلك القديم كانت والدتك يرحمها الله تؤكد أن نلعب بهدوء حتى تنتهي من ترتيب المنزل ولكنك عندما كنت تتفوق عليّ كنت لا تطيق كتم فرحتك ،تذهب إليها وتصر أن تحكي لها كيف هزمتني وتظل تقفز وتضحك حتى تصرخ في وجهينا وتطردنا من المنزل .هل تذكر؟.حتى عندما ينتابك الحزن كنت تعبر عنه دائماً دون أن تكتمه في داخلك .كنت تكره إخفاء المشاعر ومداراتها."
نظر إلى صديقه وابتسم تلك الإبتسامة الزائفة التي تخفي خلفها ما تموج به نفسه من أنفعالات وإحساس بالحسرة على تلك الأيام الجميلة التي لن تعود .
انتحى الصديقان جانباً واستمرا في الحديث عن الذكريات وانطلقا الى عالم مختلف بعيداً عن ذلك العالم المشحون من حولهما بالساسة والسياسة والدبلوماسية العقيمة .كان صديقنا يعود إلى ذلك العالم بين وقت وآخر يتابع من يدلفون إلى الحفل بنظرات خاطفة سريعة ثم يعود لمتابعة الحديث مع صديقه العزيز .القى أحدى نظراته الخاطفة على باب الدخول ولكنها هذه المرة لم تكن مجرد نظرة عابرة فقد تسمرت عينه على ذلك الباب وعلى هؤلاء الحاضرين .ليس كلهم بل بالأخص تلك التي ترفل في ثياب الملائكة البيضاء وتبدو في ملامحها وهيئتها وكلها كأنها ملاك جميل هبط فجأة على الأرض وأختار تلك الحفلة ليشارك أصحابها ويلقي عليهم من رقته وسماحته وهدوءه ما يباركهم ويبارك عامهم كله.
ظل يتابعها بنظراته وهي تدخل بصحبة ذلك الدبلوماسي الأنيق متأبطة ذراعه ثم وهي تتلقى التحية من المدعوين وتبادلهم إياها بمنتهى الرقة والوداعة بإبتسامة خُيّل إليه أنها تختلف كل الأختلاف عن تلك المرسومة على الشفاة وبنظرات خيل إليه أنها تختلف تماماً عن تلك المحفورة على الوجوه .أحس كما لو كانت كائن مختلف عن هذا المكان.ما الذي أتى بها لتطحن رقتها وتذوب سماحتها ويهتز هدوئها ويلوث ثوبها الأبيض؟.ذلك الذي بصحبتها أو الذي هي بصحبته...إنه يعرفه.لكم يشعر بكراهيته له وتعمد كثيراً أن يقلل أي فرصة للحوار أو اللقاء معه وإذا أضطرته الظروف كان يضطر أن يشحن كل طاقته ليتحمل هذا الحوار أو اللقاء ،فهذا الشخص على الرغم من كونه أنيقاً في المظهر فإنه يخلو من كل أناقة الجوهر .لا يخجل من أن يجرح خصومه ويحاول أن يدفعهم بعيداً عن طريقه بأي وسيلة ليصل لأهدافه .كانت جملته الشهيرة أن الغاية تبرر الوسيلة هي مبدأه الذي ينهجه في الحياة...حياته كلها زيف وكذب وشرور.كيف يتفق أن يجتمع تلك الملاك مع هذا الشيطان؟!!!كل هذه الأفكار والمشاعر كانت تدور بداخله وأحس صديقه أنه غائب عنه في عالم آخر.أفاقه من أفكاره وسأله عن سبب شروده فأخبره بكل ما يحسه تجاه هذين الشخصين.نظر الصديق نحوهما ثم ابتسم وقال:(قد تكون أحدى لعبه أحضرها معه ليستخدمها في مؤامرة أخرى تردي أحد خصومه .قد تبدو كملاك كما تظن ولكنك لا تعلم ما تخفيه الرقة من قسوة والهدوء من عواصف والطيبة من شرور.في عالمنا يجب أن لا ننخدع بالمظاهر كما تعلمنا يا عزيزي .كن حذراً في حكمك ولا تتعجل.)
فكر في كلمات صديقه وقرر أن يقطع الشك باليقين .انتهز فرصة وقوف الملاك والشيطان مع أحد كبار الشخصيات التي له علاقة طيبة نوعاً ما معها وقرر أن يتقدم.تقمص الإبتسامة والنظرة المهنية وتقدم بهدوء.القى التحية وتعمد النظر في عينيها لعله يسبر أغوارها .وجدها تنظر إليه نظرة أربكته .لم يتوقع أن تنظر له بتلك الدهشة الواضحة والتي تلاها خجل جعلها تخفض بصرها حيناً .أحس أنه يعرفها ولكنه لا يتذكر أنه رآها من قبل.لم يمهله الأنيق كثيراً في محاولة اكتشاف سرها .أخذ يتحدث إليه بحديثه المنمق.كان يعلم جيداً شعورصديقنا نحوه ويعلم أنه لا يحاول أن يطول الحديث أو اللقاء بينهما ولكن ما أثار دهشته أن صديقنا استمر في الحديث أطول مما توقع.
سألها عن أهتماماتها السياسية فأجابت بإقتضاب بعد نظرة خجلى:لا تهمني كثيراً فأنا أجدها مملة.
قال المتأنق بالطبع ستحضر حفل تكريمي بعد احتفاليات رأس السنة أم ستعتزر؟!!
أفاق من تفكيره في ملاكه على كلمات المتأنق .حفل تكريم؟وما المناسبة؟.تذكر تلك المهمة الدبلوماسية الخطيرة التي قام بها هذا المتأنق.تحدث لنفسه:هل يستحق مثل هذا الشخص تكريماً؟! تكريم زائف ومجد زائف حياة زائفة تلك التي يعيشها.
أخفى كل ذلك تحت قناع الجمود والبرود وقال:طبعاً .سأحضر.
كان ذلك أكثر مما توقع المتأنق .لم يكن يتوقع ذلك الرد.كان يتوقع أن يختلق عذراً ليهرب كعادته. جاء أحد الحضور يطلب من المتأنق أن يشاركه ومجموعة من الحضور في مناقشة موضوع هام فأصبح صديقنا بمفرده مع ملاكه وبدأت الموسيقى تعزف .
- هل ترقصين؟
أجابت بإيماءة من رأسها ...تقدما نحو ساحة الرقص ....امسك بيدها وبدءا يرقصان .سألها:
- هل تعرفينني من قبل؟...هل أعرفك؟
- الا تتذكر؟
ولكنه لم يتذكر .حاول وفشل .أخبرته بإسم قد يكون فيه مفتاح الذاكرة ...
- نعم إنه أحد زملائي القدامى في كلية الحقوق.لم أره منذ تخرجي.ما علاقتك به؟
- أما زلت لا تتذكر ؟
نظر في عينيها وحاول أن يتذكر .لقد مرت عشرون عاماً طاحنة مهلكة وأصبحت حياته في عالم الدبلوماسية لا ترتبط بالوجوه والأشخاص أكثر منها أرتباطاً بالآراء والمحاورات .كل الوجوه تحمل له دوماً نفس الملامح :الجمود والاتعبير فلا تكشف عن حقيقتها الداخلية لمن يقف متطلعاً في العالم الخارجي من النفس البشرية .ولكنه يشعر بألفة مع تلك العينين ،تلك النظرة فيهما لا بد أنه رآها من قبل في مكان ما .لقد كان يراها سراباً يمر أمامه سريعاً وسط مئات النظرات الميتة التي عاش متقوقعاً فيهاً منذ أن دلف لذلك العالم،كانت تحمل له دائماً إحساساً بالراحة وطمأنينة النفس والسلام يساعده على اختراق غابات الحروب والصراعات .ولكن هذا الذي كان يظنه سراباً هو يراه الآن حقيقة ،نفسه تحدثه :"إذاً لم يكن سراباً بل ذكرى جميلة كانت تعيش بداخلي،ذكرى مضى عليها الكثير من أيام الزمن ولكنها كانت كنور الشمس لمن تعود الحياة في الظلام ،هذه الذكرى كيف تكونت وكيف كانت ومتي؟!.من أنت أيتها الملاك الهابط على أرض ليست بأرضك ؟".وفجأة جاءته الذكرى كنور خرج من قلبه فنثر الضياء على وجهه ونظراته وإبتسامته .هؤلاء الواقفين حوله كانوا انكروه لو لاحظوا هذا الضياء ونور البهجة والسعادة ولكنهم في ملهاة من عالمهم البعيد لا يشعرون بأحد غير أنفسهم ،يتخاطب كل منهم مع غيره ويعتقد أنه يسمعه ويراه ولكنه في الحقيقة لا يسمع ولا يرى غير نفسه .بعيداً عن هذا العالم كان صديقنا وملاكه يتذكرون ذلك العمر الذي مضى كهبات النسيم الرقيق على النفوس .كانت أخت زميله ذلك وكانت أول حب بل أخر إحساس حقيقي مر به ،لم يصرح لها أو لنفسه...
كانت هذه أول مرة في حياته يكتم مشاعره بداخله ويمنعها من الإنطلاق في فضاءها الرحب.لا يدري الأسباب ولا يتذكرها ،كل ما يعرفه أنها هنا الآن معه من جديد كأن الزمان لم يمر وكأن العمر عاد به الى الوراء تلك العشرون عاماً . إنها الأيام...تمر بنا سريعاً كالهمس لا نشعر بها ،تدور بنا في دوامة واسعة وتطحننا فلا نشعر إلا وزماننا قد تحول لذرات تتطاير من حولنا ولا نستطيع لملمتها من جديد.ينظر إليها...ما زالت بنفس الوجه الملائكي والنظرة الصافية ....
حوار دار داخل نفسه ....تخيلها ترد عليه عبر ضياء عينيها:
- كيف وقعت في براثن ذلك الشيطان؟
- إنها الأقدار التي تحكم فلا يرد لها حكم.
- هل أحببته؟
-لم أحب في عمري إلا مرة واحدة ...لكنه ضاع؟
دق قلبه في عنف ..كان دائماً يشعر بميلها نحوه ...كان يشعر بذلك في نظراتها وضحكاتها وفنجان القهوة المضبوط الذي كانت تصر أن تقدمه له بنفسها كلما حضر إلى منزلهم.
مازال الحوار مع نفسه دائراً:
- ما الذي أضاعه؟
- الأيام التي تطحن والأقدار التي تحكم.
يسأل نفسه:
"هل أحبتني حقاً؟ أم أن هذا الضياء الصادر من عينيها يكذب ويخدع ككل تلك العيون من حولنا...كعيني زوجها." مرارة تعصر قلبه عندما التقى مع تلك الحقيقة ،هي الآن ملك ذلك الزائف الواقف هناك يناقش ويجادل في ثقة وخيلاء.أحس بالكره في أعماقه يزيد لذلك الشخص.....زوجها .
بدأ حوار حقيقي معها:
- كيف تزوجت هذا الشخص؟
- يحبني.
أصابته الكلمة في قلبه وأحس برغبة في البكاء والضحك معاً،تقمص صلابة الدبلوماسي العتيد:
- هل يعرف الحب؟!!
- بلى يعرفه ويحبني بجنون .
القت نظرة على المتأنق فيها حناناً اشعل ذلك المرجل في نفسه.
- لا أصدق.
- بل صدق. هذه حقيقة أعيشها.
- إنه حقير وزائف.
نظرت إليه بعتاب: عندما يكون معي يصبح عظيم وحقيقي..إنه يتغير،صدقني.
- أصدق أنك تحبينه.
- اليس زوجي؟
- وأنا حبيبك ...ها تنكرين أنك أحببتني؟هل تنكرين أنني حبك الوحيد ؟.
نظرت إليه بدهشة تحولت إلى غضب مكتوم ...لم يهتم بنظراتها .إنتحى بها بعيداً عن العيون ،كان بداخله بركان يريد أن ينفجر ويلقي بحممه التي ظلت تشتعل بداخله والتي تكونت بفعل السنين والضغوط والصراعات والحب الضائع الذي وجده فجأة أمامه في أحضان شيطان يكرهه ويكره عالمه.
- أنت تحبيني أنا.لا يمكن أن تحبي هذا المخادع الزائف .لا تقولي أنه يحب فهو لا يعرف معناً للحب ،كله زيف وخداع.ليس هو الذي يتغير بل أنت التي تتغيرين لتصبحي مثله زائفة وشيطانه .هل تنكري حبي؟تكلمي.
كان الغضب قد وصل لذروته ولكنها تماسكت وابتسمت بهدوء،نفس الإبتسامة الرقيقة وإن كانت تحمل مرارة قاسية كانت تشعر بها :
-قد أكون أحببتك قديماً ولكن الآن أنت من تحبني وليس أنا ولكن هذه أيضاً أشك فيها .هل تدري لما ضاع الحب؟ ضاع لأنك انطلقت تعدو خلف أحلامك ومستقبلك السياسي ..وراء الدبلوماسية..ذلك العالم الذي تتهمه بأنه زيف وخداع هو الذي تركتني من أجله .أنا الآن أعيش حياة حقيقية وإحساساً حقيقي مع زوجي الواقف هناك وسط ذلك الحشد من الناس يتكلم ويحاور.إنه يحبني أكثر من أحلامه وطموحه.قد يكون عالمه الخارجي زيف ولكن عالمه الداخلي معي كله صدق وحقيقة وواقع .
كان يستمع لكلماتها ويشعر ببرودة تسري في أطرافه وتنتقل لكل خلية في جسده رغم الدفء الذي ينشره جهازالتكيف المركزي في كل الأنحاء وعيناه تبتعد عنها قليلاً وتنطلق خلف ذلك الثلج الأبيض الذي بدأ يتساقط وجموع من المدعوين يتجمعون عند النافذة يتضاحكون وينظرون للثلج بإشراق غريب لم يعهده فيهم من قبل ومع هذا الأحساس بدأت روحه تنطلق بعيداً كأنها تخلت عن جسده وأصبح يشعر كأنها تتحدث للفراغ لا له أو كأنها ليست هي من تتحدث وأخذ ينظر إلى شفتيها ويركز محاولاً مطابقة ما تسمعه أذنه على حركات تلك الشفاه ومحاولاً إستعادة صوتها القديم في ذاكرته لتطابقه خلايا مخه مع تلك النغمات الصادرة من بين تلك الشفاه المتحركة وهي مازالت تكمل سطور حوارها بنفس الإبتسامة الرقيقة:
أنت تكرهه ولكنه لا يكرهك بل يشفق عليك كثيراً فلقد حدثني عنك وكنت أتوقع أن أراك هنا ولكنني لم أتوقع أن أسمع منك ما سمعت.الآن أنا أيضاً أشفق عليك ،هل تدري لماذا؟.إن عالم الدبلوماسية والسياسة لا يعيش خارجك فقط بل داخلك أيضاً،تلك الصراعات وذلك الزيف والخداع ،لقد أحطت نفسك بكل هذا كما أحاط بك أيضاً وأصبحت تاءهاً .
مازال يشعر بالبرودة وحدقتاه تتوتر بين عينيها الدامعة وذخات الثلج المتساقطة خلفها عبر النافذة والظلام في الخارج دامساً تخترقه نتف الثلج الأبيض كثوبها ،خلايا مخه تؤكد تطابق ذلك الصوت من الزمن القديم و تلك الترددات المنهمرة على أذنه ،عينه تتوثق من إنطلاق تلك الترددات عبر تلك الشفتان نحو كيانه الواقف خالياً من أي إحساس إلا الشعور بوخز عميق بين جنبات صدره تنطلق منه ومضات من الألم لتسري عبر أليافه العصبية متجهه نحو عقله تحاول إكتشاف وتحليل وتفسير ما تنطلق به من كلمات ،تحاول إكتشاف حقيقة ما تقول وتدعي ،ولكنه يفشل ربما لأول مرة في حياته في إيجاد تحليل سريع ودقيق ومؤكد لما يغزو عقله من جمل وكلمات .
لم تكن قد إنتهت من حديثها بعد فظلت تتابع وهي تشعر بنظراته الزائغة وكأن بعض البرودة التي يشعر بها قد أصابتها فضمت الشال الأبيض أكثر حول رقبتها وهي تقول بصوت حانٍ كأنها تحدث طفلها الصغير:
لست زائفة ولا شيطانة بل أنا بشر وأنت كذلك وكلنا بشر في عالم يسير وزمان يمضي وحياة تمر ،نحاول أن نكون الأفضل دائماً،قد ننجح وتدفعنا الظروف لنقترب من الكمال ،الملائكية، وقد نفشل ونُدفع لنقترب من الشيطانية ،وقد نضل فنعتقد أننا وصلنا للأفضل ونحن نتجه مباشرة نحو الأسوء .
كان متجهاً بنظره لمتابعة الثلج المتساقط ،أمسكت بذراعه فنظر مباشرة في عينيها وهي تكمل بنبرات ارتجف لها قلبه وأحس بصداها يتردد داخله:انظر في مرآة حياتك ،تذكر ما كنت وما تكون ،صارح وناقش وحاور نفسك قبل الآخرين ،نحي الزيف والخداع جانباً وستجد الحقيقة التي وجدتها أنا وزوجي،عندها ستشعر بالسعادة التي نشعر بها وربما تعيش في حب مثلنا.
ظل ينظر في عينيها وشعور بالإختناق يحتل نفسه ،سمع صوتاً ينبه الحاضرين لإقتراب انتصاف الليل وإعلان بداية العام الجديد ،تركته في عالم يموج بالإضطرابات والأمواج المتلاطمة ،أحس كأنه هو نفسه موجة تضرب الصخور أو صخرة تضربها الأمواج ، لا يدري .تركته وذهبت لذلك المتأنق ،أستقبلها بإبتسامة وقبلة على جبينها.
بدأ العد التنازلي :عشرة...تسعة...ثمانية...كأن قلب صديقنا يدق بعنف وعقله تتضارب فيه الأفكار وكيانه كله يموج ويهتز ،ثلاثة...إثنان....واحد....أُطفأت الأنوار،أحس بالراحة في دنيا الظلام.عادت الأنوار بعد ثوان مع هتافات الجميع ،أحس بالأختناق يعود إليه ،ليس لأن الظلام من حوله اختفى بل لأنه أكتشف الحقيقة،ربما الظلام بداخله هو .نظر تجاهها فوجدها تضحك في صفاء وغريمه يضحك معها وينظران بكل السعادة لبعضهما ولكل الحاضرين .أن النور يشع داخل الروح فيعم على من حولها ولكن روحه مظلمةً تاءهةً كما قالت ،هكذا حدّث نفسه .جاء صديقه ليهنأه بالعام الجديد ،لم يرد،شعر الصديق بشئ غير عادي ،سأله فأعاد عليه كلامها،ضحك الصديق وقال:الم أحذرك من ملاكك يا عزيزي؟!
نظر إلى صديقه وكأنه يقول له:كان يجب أن أحذر من شيطاني أنا.
ترك الحفل بعد أن ودعها بنظرة أخيرة،منحته نظرة حانية مشفقة .أتجه إلى منزله سيراً على الأقدام .الشوارع كلها خالية والثلج توقف عن السقوط والعالم من حوله ساكن والأضواء في كل مكان والزينة في كل ركن.سار وحيداً في ذلك الفضاء حتى وصل لفضاء منزله الدائم وجلس في الشرفة على مقعده الهزاز ينظر للسماء وأفكاره تتجول في ذلك السكون .
في الصباح جلس إلى مكتبه ،سحب ورقة من أوراقه،أمسك بأحد الأقلام وخط عليها أستقالته بكلمات موجزة،وضعها في مظروف وارتدى معطفه ثم أنطلق إلى السفارة مشياً .كان يشعر بالخواء ولكنه يعلم أنه لا بد أن يضع حداً لتلك الحياة التي يعيشها ،ذلك العالم الذي أنطلق إليه مهرولاً سعيداً به وبمظاهره فوجده فارغاً خالياً زائفاً.إنه كتلك الزينة المعلقة في كل ركن نفرح بها يوماً ،يومين حتى تنتهي بهجتها فنرفعها ةنحجبها حتى يحين موعدها في العام القادم .ولكن حياته لم يكن بها عام قادم.كانت كلها متشابهة .فليأخذ موقفاً وينهي هذا كله الآن وللأبد .لم يفكر ماذا سيفعل بعد ذلك ولكن كل ما بداخله كان يصرخ بتلك الرغبة.
وصل إلى السفارة وطلب مقابلة السفير على الفور ،تعجب عندما قابله بالفعل على الفور .صافحه السفير وهنأه بسعادة وهو لا يدري اسباب التهاني ،لم يهتم وقدم خطاب الإستقالة. أمسك السفير بالخطاب مندهشاً ،فتحه وقرأ ما به فزادت دهشته وتحولت لضحكات كبيرة، ثم جلس وطلب منه الجلوس وقال له:لقد تم ترشيحك لتحل محلي هنا بعد شهر من الآن عندما تنتهي خدمتي.
كانت الدهشة الآن من نصيب صديقنا ،هب واقفاً وهو لا يصدق ،ضحك بدوره ،سأل السفير أن يصدقه القول فأكد له بكل جدية صدق ما يقول ،وقف ذاهلاً.لقد تحقق الحلم الذي من أجله أنطلق الى ذلك العالم وتحمله كل تلك السنوات لقد وصل إلى الغاية،ولكن أي غاية ،الآن يجب أن تكبر الأحلام ،الآن سيكون سفيراً بعدهايجب أن يطمح في أكثر وأبعد وأعظم .أفاقه السفير من أحلامه وهو يقدم له الخطاب:أعتقد أن هذا لا داعي له.
أمسك بالخطاب وتذكر كل شئ دفعةواحدة ،رأى عينيها تنظر إليه بسخرية ورأى زوجها كما كان يتصوره دائماً في أحلامه كمسخ بشع .دار كل شئ أمامه كشريط سينمائي باهت الصورة .سأله السفير: ماذا ستفعل به؟!!
نظر إليه ثم إلى الخطاب ،ماذا سيفعل؟...إتجه إلى النافذة ،نظر إلى قرص الشمس وهو يكمل مشواره المعتاد ليصل لكبد السماء ،إنها رحلة أزلية ،يبدأ دوماً من المشرق ويصعد بتؤدة وصبرحتى يصل لأعلى نقطة في السماء ثم ما يلبث أن ينزل وينخفض ويهبط حتى يغيب ويختفي خلف الأفق .إنها دورة لا بد منها لتكتمل الحياة وتستمر.
مازال ينظر لقرص الشمس الواهن خلف السحب .ترك القرص الضئيل يكمل رحلته وعاد لتلك الغرفة،إلى ذلك العالم ....عالم الدبلوماسيات وقصاصات من الورق المبعثر تتطاير خارج النافذة .
كتبت للأول مرة في صيف 1997
0 comments:
إرسال تعليق