(3) - مساء الخير يا شاعر...
كانت تحية المساء ألقاها أحمد في مرح على صديقه الذي كان ينتظره في المقهى الأدبي- كما كانوا يطلقون عليه- وهو كوفي شوب تطل على البحر ويتجمع بها الكثير من أصدقاء الهواية الأدبية من كتاب الشعر والقصة والرواية يتسامرون ويتناقشون .
نظر أمجد له ثم نظر في ساعته وظهر الضيق على وجهه...
- منتظرك منذ ساعة ....أين كنت؟
- كنت على البحر...
نطقها أحمد في لهجة الحالم العاشق للحلم ...نظر له أمجد وقد غلبت الدهشة محل الضيق ...
- تبدو غريباً اليوم....ماذا حدث؟
- لا شيء....ما آخر الأخبار.
- تحددت الندوة التي ستناقش روايتك بعد غد وسيحضرها عدد كبير من المهتمين بالأدب وخاصة فن الرواية...
- حقاً ..
- طبعاً ....لولا مجهودات صديقك المتواضعة وعلاقاته المتشعبة ما كنت أستطعت أن تفعل نصف ما فعلت.
ضحك أحمد وهو يضع يده على كتف صديقه...
في ذات المساء كانت مهرة على موعد مع أصدقاءها في الكلية ...كانت نهاد من أقربهم لقلبها وخاصة أن والدها هو الصديق الأقرب لوالدها الراحل ....قالت نهاد :
هل تذكرون ابن عمي المؤلف الكبير؟
سخر الجميع منها فهي دائماً ما تتفاخر بأقاربها ويكتشفون في النهاية أنهم في الحقيقة أبسط بكثير مما توهمهم به، وهم يعلمون أنها تستخدم هذا الأمر على سبيل المزاح تتندر به في مواقف كثيرة فلا يحملون في أنفسهم منها أي ضيق ويتندرون معها وقد يتعمدون السخرية في بعض الأوقات رغبة في إثارتها للنيل منها ولكنها لا تغضب ....بل تضحك معهم ....ولكن هذه المرة كانت مختلفة...
قالت بتحمس : لقد طبع روايته الجديدة.....إنها تحفة.......معي هنا نسخة منها وهي النسخة الوحيدة على فكرة....من يرغب في نيل شرف قراءتها أولاً ...
تجاهلها الجميع فقالت بتحد: ستفوتكم أروع رواية في العصرالمعاصر.....أنتم أحرار...
وكانت "مهرة" تعشق التحدي....وقد حكت لها نهاد من قبل في مناسبات قليلة عن إبن عمها وموهبته وصداقته لها : سأقرأها أنا......ولكن إذا لم تعجبني فعليك أن تعترفي بأن ابن عمك المزعوم أفشل كاتب في العصر المعاصر......
وضحك الجميع وأعجبتهم الفكرة وتم الإتفاق.....
قضت مهرة الليل كله تقرأ.......ولم يكن حباً في القراءة أو رغبة في كسب التحدي بقدر ما كان رغبة منها في الهروب من أفكارها عندما تصير وحيدة.....ولكنها رغماً عنها نسيت كل أفكارها ووجدت الصفحات تقلب وعينها تلتهم السطور....
( فتاة البحر....هكذا كان الجميع يطلقون عليها ....وكانت هدى قد تعودت على الأسم ....كان البحر هو تلك الروح التي تنطلق بداخل كيانها... حين تتركه تشعر أنها تركت ذاتها على شاطئه وسارت تتقمص ذاتاً غريبة وأنها تركت أحلامها تطوف في السماء فوق أمواجه وسارت بلا حلم ....كان البحر هو عالمها الحقيقي الذي تعشقه....)
إنغمست مهرة في ذلك الإحساس الذي ينطلق من الكتاب ، تخللت تلك الأحاسيس وذلك الخيال الناعم نفسها حتى أقبل الفجر عليها بنوره الشفاف........أغلقت الكتاب وفي أعماقها سحر يأسرها لم تشعر في يوم بمثله يحتل نفسها...
قلبت الغلاف لتقرأ اسم الكاتب: أحمد جمال الدين......وبجوار الأسم كانت صورة ضوئية صغيرة لم تلحظها...
ابتسمت في شرود......إنه نفسه ذلك الشخص الذي قابلته على الشاطيء......
في حجرة الرسم جلست أمام لوحة......
سرحت في تأملاتها...
ملامحها.....حيرة وحزن.....نظرت لصورة والدها: ليتك كنت هنا الآن ......ظننت أني لن أحتاجك أبداً ... علمتني أن أكون قوية ولم تعلمني كيف أفعل ذلك بمفردي..ليتك هنا حتى تجيب عن السؤال الحائر .....من أنت؟ ومن أنا......
رأته على الشاطئ يجري ، لوح لها من بعيد كأنها صديقة قديمة.....شجعها ذلك على الإقتراب :
لقد قرأت الرواية التي كتبتها.
توقف وانطلقت ابتسامته الحلوة المرحة : حقاً .....
في خجل طفولي قالت: نعم.....
نظر في عينها مباشرة وهو يقول في بساطة وحماس : وما رأيك......
سارا يتحدثان كأنهما صديقان قديمان إفترقا وعادا للقاء مرة أخرى ........
- أشفق على هدى...
- لماذا؟
- جعلتها غير قادرة على التعامل مع واقعها...قررت الهروب ...عاشت أحلاماً وأوهاماً جعلتها سياجاً يحميها من حقيقة واقع ترفضه بما فيه من خيانة وكذب وخداع ...وكانت النتيجة أنها لم تستطع التعامل مع واقعها وفي نفس الوقت تمزق سياج الوهم الذي كانت تهرب له وفيه....
نظر لها أحمد في دهشة...كانت روايته فانتازيا رمزية...وفتاة البحر كانت إسماً على مسمى...فقد كانت تهرب من الجميع لتدخل عالم البحر كل ليلة وتعيش فيه بعيداً عن الأرض ...وقبل الشروق تخرج للشاطيء وتعود لحياتها البشرية تعيشها طوال النهار حتى يأتي الغروب وتنزل للبحر......
..لم يتصور أنها قد إستطاعت فهم ما وراء السطور من رمز بما يحتويه من تداخلات وخيالات معقدة علق كثير من أصدقائه أنها ستكون صعبة الإدراك بالنسبة للمتلقي البسيط....لقد لخصت مهرة ما أراد أن يرمز له ووصفت هدى بالضبط كما أراد أن يعرضها...
مر به خياله الخاطف من جديد فيتوهم أنها نفسها هدى.....
كانت تنظر للبحر صامتة ...إلتفتت له وهي تبتسم...
- سأرسمها في لوحة...
- من؟
- هدى...
- هل ترسمين.؟....
- إنها هوايتي...ودراستي.
- هل أستطيع رؤية اللوحة بعد إنتهاءك منها؟
- مرحباً بك في مرسمي في أي وقت....
قبل أن يفترقا توقف ونظر لها...
- غداً ستناقش روايتي في ندوة أدبية في قصر الثقافة....
- هل أستطيع الحضور؟
- هذا ما أتمناه....
- إذن سأحضر ...
جلست بين الناس تستمع له يقرأ أجزاءاً من كتابه...كان فوق المنصة يقرأ ويتخيلها - رغماً عنه - هدى بطلة الأحداث......
( كانت تسير الهوينة تداعب بقدمها الصغيرة تلك الرمال المبللة ، شعرها الأسود ينطلق مع الرياح في كل الإتجاهات ...لا تعبأ بالطبيعة العاصفة من حولها كأنها قد إنفصلت عن الوجود وتسير في عالم آخر من وحي إحساسها الخاص....ذلك الإحساس الذي إنطلق يهفو ويملئها بكل الراحة...الطمأنينة...الأمان...هذه المعاني التي لم تكن لها وجود في عالمها المبعثر ...لم تعد تعبأ بالحياة من حولها فداخلها الحياة تتشكل من جديد ،تتشكل من الحلم والحب ....
هناك في حضن تلك الأمواج ...في قاع ذلك البحر الهادر ينتظرها حبيبها...)
عرّفها بأمجد...
- صديقي أمجد ..فتاة البحر..
صاح أمجد في دهشة: أنت...إذن لم تكن مجرد خيال.
كانت تنظر لهما والحيرة ترتسم على ملامحها ..
- لا أفهم...
- نسيت أن أخبرك أنني أعرفك قبل اللقاء....
- كيف؟
- كنت أراك وقت الغروب على الشاطيء....أسميتك فتاة البحر واستلهمت خيالي منك روحاً بعثتها في روايتي .
- حقاً؟... هدي.؟
- نعم...
سرحت...عندما قرأت الرواية للمرة الأولى دار سؤال في عقلها....هل ترفض واقعها....هل تحاول الهروب منه... هل تتمسك بأوهام وأحلام أن يكون لها أهل...عائلة...حضن يضمها ويحيطها بسياج الأمان والحماية...
أفاقت على صوت أحمد....
- أين ذهبت؟
رد أمجد مبتسماً : للبحر طبعاً ..
ضحك الجميع ...أقبلت عليهم نهاد ووقفت بجوار مهرة تنظر لأبن عمها..
- مبروك يا أحمد...ولكن كيف تدعو مهرة للندوة ولا تخبرإبنة عمك؟ ، على الرغم من أنها لم تكن لتقرأ روايتك لولاي ...
نظر أحمد لمهرة في تعجب...
- نسيت أن أقول لك أني أيضاً أعرفك قبل اللقاء....نهاد صديقتي حدثتني عنك كثيراً وهي من أعطتني الرواية لقراءتها
أبتسم أحمد ...
- هذه الدنيا صغيرة...إذن أنت صديقة نهاد التي تتحدث عنها كثيراً
إبتسما ....ثم نظرت نهاد لأمجد..
- إذن أنت أمجد...
- كيف عرفت؟
- ممن تعتقد؟!!!!هناك شخص أيضاً يتحدث عنك كثيراً .
ضحك الجميع وساد جو من المرح بينهم...تلفتت نهاد حولها....
- أين عمي.؟
- هناك يقف مع دكتور عمرو.
أقبلت سيدة في الخمسينات من عمرها قد ضمت شعرها الأحمر للخلف في دائرة سميكة وترتدي نظارتها ويبدو على ملامحها إنفعال خفيف....
- أحمد....
نظر أحمد ناحية الصوت....رآها...لم يكن يحتاج إلا نظرة واحدة ليتعرفها....رغم السنوات الكثيرة التي مضت إلا أنها لم تستطع محو الصورة من ذاكرة عقله....كان آخر ما يتوقعه أن يراها هنا....لم يدعوها ولم يتصور أن تعلم بأمر تلك الندوة فتحضر....ولكنه نسى أن صديقه له إتصالات متشعبة بين الأدباء والمثقفين ولا بد أنه دعاها دون أن يعلم...
أنها أمه....
ظلت واقفة تنظر له وفي عينها نداء يدعوه لها....ولكنه لم يلبي النداء...إستأذن من أمجد ومهرة ومضى بعيداً وعيناها تتبعه حتى غاب عنها....
كانت هناك عينان أخريتان تتبعانه ثم تعود لتلقي نظرة على السيدة...عينا مهرة....رأت رجلاً يتقدم من السيدة ويحدثها...ثم يسير معها بعيداً ووجهها ممتعق وعيناها تحملان حزناً عميقاً ...
- نهاد...من هذه السيدة؟
ترددت نهاد في إجابتها ...
- فيما بعد يا مهرة...
رد أمجد والدهشة تملئ وجهه:
- إنها السيدة شهيرة شاهين...صحفية معروفة ومن أكبر الأديبات ...هل تعرف أحمد؟
ردت نهاد في إقتضاب محاولة إنهاء الحوار :
- لست أدري.....
...كانت تعلم من هي السيدة وتعلم جيداً موقف أحمد منها...هي وأحمد أصدقاء منذ الطفولة على الرغم من فارق السن بينهما...لم يكن لها أخ وكان بالنسبة لها أخوها وصديقها الذي تثق فيه وتعتمد عليه وترى فيه مسانداً لها عندما يقف والدها أمام تحقيق رغباتها الخاصة...ولولا وجود أحمد بجوارها ومساندته لها لما تمكنت من إقناع والدها بدخول كلية الفنون الجميلة كما كانت ترغب .
لم يتحدث أحمد معها في تفاصيل إحساسه وموقفه من والدته ولكنها كانت تعلم كل شيء فقد عاصرت الحدث في بيتها من خلال أحاديث أمها وأبيها... إحترمت صمته وعدم رغبته التطرق للحديث عن أمه ونسيتها وتصورت أنه أيضاً نساها ولكن ما حدث الآن أمامها يجعلها تؤمن أنه لم ينسها يوماً ولم ينسى تلك المرارة التي خلفتها في نفسه...
إستأذنت مهرة من نهاد وأمجد....ذهبت تبحث عن أحمد...كان يجلس في حديقة المكان....جلست بجواره....كانت فترة صمت حتى بدأت بالكلام...
- يبدو أن نهاد قد حدثتك عني كثيراً ...
لم تخرجه هذه المحاولة من صمته....كأنه أغلق على نفسه بوابة غير مرئية ومنع أحداً من إختراقها.
نظرت لجانب وجهه....بإحساسها شعرت بذلك الألم الكبير الذي يسري في نفسه..كانت خبيرة في الآلام ولم تجد صعوبة في قراءته....شعرت بجزء منها يتمنى لو يشاركه في ألمه ....شعرت برغبة قوية في البكاء ...نظرت للأمام وظللهما حاجب الصمت ...قررت أن تشاركه في صمته ...
الثلاثاء، ١٤ أكتوبر ٢٠٠٨
الاشتراك في:
تعليقات الرسالة (Atom)
0 comments:
إرسال تعليق