الجمعة، ١٧ أكتوبر ٢٠٠٨

تابع(البيت الخشبي)

(11) خلف الكثبان الرملية الشمس تطل بنورها الشفاف، تتألق الذرات بضوءها الخافت . وعلى التل الصغير يستقر البيت الخشبي محاطاً بنباتات الصبار.... نوافذه الخشبية مغلقة والكرسي الهزاز وحيداً في شرفته بين الصبارات المنتشرة تهزه النسمات الهادئة فجر هذا اليوم. ومن بين إحدى الألواح المكسورة لأحد النوافذ تتسلل الشمس ، تمسح بعض الظلام المنتشر في الغرفة الواسعة . وعندما يكتمل نمو القرص الذهبي تشتد قوة أشاعته وتغزو المكان ملقية ببعض حرارتها على وجه الفتاة النائمة في ذلك السرير الصغير. تفتح عينها وتغطي بيدها وجهها هرباً من الحرارة والضوء . صوت الماعز في الخارج يعلن النهاية الحتمية لأي محاولة للنوم مرة أخرى. تنهض من الفراش وتسير متكاسلة بشعرها المهوش وتلك البيجامة التي إعتادت النوم فيها منذ قدومها لهذا المكان منذ أسبوع تدخل المطبخ الصغير وتعود حاملة إناءاً صغيراً. تفتح الباب الذي يصدر صريره المعتاد وتلقي بتحية الصباح على " عالية" الراعية وهي تحاول ضم خصلات شعرها خلف رأسها الصغير . - صباح الخير يا "مهرة" . ترد "عالية"الراعية البدوية تحية الصباح وهي تمد يدها لتتناول الإناء من الفتاة. تلم ثوبها الأسود الفضفاض ذي النقوش والزخارف الملونة حولها وتجلس ساحبة إحدى العنزات لتقوم بحلبها . وتسترسل في الحديث عن أخبار الواحة القريبة ،والقبيلة .......وعن صخر. تتنهد"عالية" وتلقي بنظرة نحو "مهرة" من عينها الواسعة المكحلة بعناية ودقة خلف النقاب . ولكن الأخيرة كانت تجلس على الكرسي الهزاز وسط نباتات الصبار وحولها بعض العنزات تداعبها وتمسح على ظهورها الصغيرة . تكمل "عالية" عملها وهي ما زالت تثرثر بالحديث: الواحة مليئة بالزوار من الأمس.. "صخر" معهم وسيأتي بهم للقبيلة لنضيفهم كالعادة. إنتهت من حلب العنزة وقامت تحمل الإناء لداخل البيت . وقفت تتأمل اللوحات المنتشرة في كل مكان . رفعت نقابها فظهر وجهها الخمري وطابع الحسن المميز المدقوق بالوشم الأخضر وضعت اللبن على الطاولة الصغيرة وتقدمت من إحدى اللوحات ووقفت أمامها مشدودة بكل حواسها........ نادت عليها "مهرة "من الخارج فلم تسمعها. دخلت "مهرة "وهي تحمل العنزة البيضاء الصغيرة ..........لم يكن منظر الراعية المشدودة للرسم بغريب فهي دائماً ما كانت تتعمد أن تُدخل الإناء بنفسها لتقف قليلاً أمام اللوحات تتأملها. لاحظت" مهرة" هذا منذ أن بدأت "عالية" تداوم على زيارتها الصباحية لها ولم تعطها إهتماماً في البداية. ولكن مع الوقت بدأت تشعر أن هناك علاقة بين" عالية" واللوحات........ علاقة خاصة . تركت العنزة الصغيرة تلهو في الأرجاء . أقتربت من الراعية البدوية - أراك تقفين كثيراً أمام اللوحات . هل تعجبك لهذه الدرجة ؟ تنتبه "عاليه" وتلتفت خلفها وقد أحست بالإحراج: - أحب هذه الألوان.........منذ كنت صغيرة كان هذا المكان ساحة لهونا وكانت هذه الألوان هنا.....إنها شبح من أشباح الطفولة ........ أحس أن بها شيء....... - ماذا بها؟!!!!!!.......... سألتها"مهرة"....... الحيرة تقبع في عين الراعية وتمتد لملامحها: لست أدري .........هذه اللوحة مثلاً منذ كنت صغيرة وأنا أراها كرمال الصحراء في يوم العاصفة وأتخيل شبح أمرأة تحاول الوقوف في وجه الزوبعة ....... تقترب "مهرة" من اللوحة وتنظرللخطوط المتداخلة وتلك الألوان التي أمتزجت .......يأتيها صوت عالية وهي تنظر للوحة أخرى : وهذه هنا كانت من أحب هذه الرسومات إلى قلبي فدائماً كنت أرى فيها ضحكة كبيرة وكلما شعرت بالحزن كنت أقف أمامها وأضحك........أما هذه فبها دموع كثيرة .......لوحة حزن ثقيل....... تصمت عالية قليلاً وتلتفت مبتسمة لمهرة التي أعطتها ظهرها.......التردد يلمع في عينها ولكنها تسأل: هل ترسمين مثل هذه اللوحات يا"مهرة"؟ لا يجيبها إلا الصمت.......والشرود.... تتلاشى الإبتسامة على وجه عالية ...تتأمل مهرة ...تتأمل ملامح الوجه الدقيقة الحزينة وذلك الشرود الذي رحل بها بعيداً ...تتأملها في صمت ، وفي صمت تحمل العنزة الصغيرة وتخرج دون أن تزيد كلمة واحدة ولا تلبث أن تكون قد إبتعدت عن البيت الخشبي يسبقها قطيعها الصغير متجهين نحو الواحة. ----------------------- وضعت" مهرة" إناء اللبن على النار الصغيرة وملئت الكوز النحاسي ببعض المياه مسحت وجهها وخصلات شعرها المتناثرة في غير ترتيب وعادت للغرفة تبحث عن مشطها الصغير. أمام بقايا المرآة وقفت تمشط الخصلات وتنظر للوحات المنعكسة في المرآة. تركيبة الألوان نفسها التي تتكرر في معظم اللوحات.......تركيبات وتداخلات تشبه الوجوه أو النخيل أو حتى الماعز الصغيرة ولكنها لا تفصح قط عن حقيقتها. حاولت بكل جهدها ليالٍ طويلة أن تغزو هذا العالم من الألوان الذي صنعه والدها الراحل في هذا المكان. حاولت أن تفهم . ولكن كل ما حصلت عليه من محاولاتها العديدة صداع طويل لا ينتهي إلا بإستسلامها للنوم هرباً من التفكير. ثم فوجئت ب"عالية" الراعية تقتحم العالم اللوني . تقتحم الرموز والأشكال والخطوط وتقف أمامها ثم تنطق فجأة بشيء بسيط تعبر به عن إحساسها الذي تداخل تماماً مع هذه التكوينات بطريقة ما. أقتربت من اللوحات ودققت النظر بها وكلام الراعية يدور في عقلها ......تراها بشكل مختلف،تراها بوضوح شديد وتبدأ في فهمها ......... كأن الراعية قد فكت لها الشفرة وأعطتها مفتاح الحل. ربما يجب أن تشكرها ولكنها في ذات الوقت لا تستطيع أن تسامحها على خطأ لم تقصده. لا تستطيع أن تسامحها على قدرتها على التواصل مع هذا العالم بينما وقفت هي عاجزة لا تستطيع....ولكن ما ذنب عالية...هكذا قالت لنفسها...ماذنب عالية أنها تجهل الكثير عن أقرب الناس لكيانها...أحست أن هناك الكثير في عالم والدها خلف هذه اللوحات لم تكن تعلم عنه شيئاً ...عالم يرتبط بهذا المكان الذي قضى فيه سنوات عديدة قبل أن يلجئ للبحر ليحيا ما تبقى من عمره أمام أمواجه... اقتلعها من أحاسيسها وأفكارها حسيس اللبن في الإناء يوشك أن يفور كالعادة فأسرعت تطفأ النار وتبعد الإناء .... - سأستمر في البحث...يجب أن أعرف المزيد... هكذا قررت وهي تتأمل تلك الخطوط التي تشكل البدوية في مواجهة رمال الصحراء العاصفة... رنات هاتفها بجوارها ....كان أحمد الذي أعتاد الإطمئنان عليها كل صباح منذ قدومها لهذا المكان. -كيف حال الصحراء؟ - تسلم عليك...تخبرك أنك أوحشتها كثيراً وتود لو تراك. - هل تعرفني...لا أعتقد أني قابلت حضرتها من قبل. - طبعاً تعرفك لقد حدثتها عنك...كيف حال صديقي الأزرق؟ - أمواجه هادئة..يبدو أنه يفتقد فتاته...يسأل متى ستعود؟ - لقد قررت أن أذهب لزيارتهم.... - تقصدين أهل القبيلة البدوية؟ - نعم...كنت أحتاج بعض الوقت مع نفسي قبل أن أخطو تلك الخطوة....أشعر بالخوف. - مما؟ - من المجهول الذي ينتظرني هناك. - لا تخافي مهما كان ذلك الذي ينتظرك، إن كان خيراً فهذا شيء جميل وإن كان شراً أتركيه خلفك وعودي وستجدينني هنا من أجلك. - وأنت هل من جديد..... - أمي تصر على إقناعي بعرض روايتي الجديدة في ندوة للمناقشة في العاصمة. - وأنت ترفض .. - أعرف أنها محاولة منها لكسر ذلك الحاجز وربما أفكر في منحها تلك الفرصة ولكني لا أريد مناقشة الرواية في غيابك. - لا تقلق ، فقط أخبرني بميعاد المناقشة وسأكون هناك. - حقاً ؟ - هذا وعد....فقط وافق على عرض والدتك ولا تتردد. - سأبدأ الترتيبات من الآن وسأحاول أن تتم سريعاً حتى القاك سريعاً .. - أنا أيضاً أريد أن أراك.....كيف حال الجميع عندك.....وكيف حال دادة خديجة. - الجميع بخير...هناك مفاجأة بالأمس أتفق أمجد ونهاد على تحديد ميعاد الفرح ..سيكون بمجرد عودتك. - كانت نهاد ترغب في الإنتظار. - هي من أرادت التعجيل وأصرت عليه.... - مجنونة...أتمنى لهما السعادة من كل قلبي. - سأذهب الآن ....كوني قوية.. - مع السلامة..... ------------------ كانت تقف في شرفة المنزل ترتدي بنطلونها الجينز الفضفاض وقميصها الكاروهات الأصفر ذي الأكمام المشمرة وتتدلى ضفيرتها خلفها....... تقف أمام لوحة تحاول أن تلقي على صفحتها البيضاء بعض من ألوانها الخاصة....... - صباح الخير يا ست البنات. فاجأها حسان بوجوده ولم تكن قد أحست به إلا وهو يقف بجوارها يتطلع لها بعينه النارية ففزعت وسقطت الفرشاة من يدها. انحنى والتقط الفرشة ومد يده لها وهو يبتسم كثعلب ماكر.......التقطتها وهي تنظر له في حذر: - الا تذكرينني.....أنا حسان. كانت تعرفه جيداً . منذ قدمت وهو يفاجأها أوقاتاً بمثل هذه الزيارات غير المتوقعة. يتحدث وهي تستمع دون رد. منذ أول لحظة وهي لا تشعر نحوه بالثقة ولم تحاول أن تفكر في السبب أو تجد صفة منطقية له وإن كان يتكشف لها في كل مرة ما يؤكد صدق إحساسها كان "حسان" يتأمل فيما ترسمه وهي تتابعه ببصرها صامتة...... - ماذا تفعلين؟!!!! - لا دخل لك. يضحك ويقترب منها: حقاً لا دخل لي؟!!! تقف في عناد أمامه وملامحها تحمل غضباً . - ماذا تريد؟ - لا شيء ،فقط أرغب في الإطمئنان عليك. أنت فتاة صغيرة وتعيشين وحدك في هذا المكان المهجور. ألم تسمعي عن الذئاب؟ - سمعت. - ألا تخافين؟!!!! تبتسم له في سخرية: هل تخاف أنت؟!!! يدور حولها وهو يفكر...يريد أن يعرف سرها....يشعر أن "صخر" يعرف ويجب أن يعرف هو أيضاً . حسان: قلت لي أن هذا البيت ملك لوالدك المرحوم ولكن لم تخبريني متى مات. مهرة: منذ خمس سنوات. حسان: وتعيشين طوال هذا الوقت مع أمك أليس كذلك؟ مهرة: أمي ماتت لحظة ولادتي. حسان: إذن مع من تعيشين؟! مهرة: لا دخل لك حسان: هل عندك ماء؟ - لماذا؟ - عطشان....أريد أن أشرب. - الماء بالداخل... عادت للوحة وأعطته ظهرها . نظر لضفيرتها في سخرية وغيظ ودفع باب المنزل بقدمه ودخل. كان المكان مضاءاً بنور الشمس التي تدخل من كل النوافذ المفتوحة. كانت أول مرة يدخل هذا المنزل منذ قدمت مهرة . هو أيضاً كان يلعب مع الأطفال حول وداخل هذا المنزل ورغم كل القصص المخيفة التي كانت تُحكى إلا أنه استمر يأتي إليه كلما رغب في الإختلاء بنفسه كانت عزلة المكان وإطلالته من فوق التل الصغير تناسبه.......يجلس في شرفته وينظر للسماء ويفكر، وكانت الأفكار تغزوه سريعاً وينطلق لتنفيذها دون إبطاء...أفكار شريرة تتناسب مع طبيعته التي لازمته منذ كان طفلاً صغيراً يلهو. لقد جاءت مهرة لتقطع عليه سيل الأفكار والتأمل اليومي........ مط شفتيه وبصق .... كان أوقاتاً يبيت فيه على نفس السرير الصغير.......مر بيده على فراشه وهو يبتسم..... دخل المطبخ وملئ الكوز النحاسي وهم بالشرب عندما لمح بطرف عينه شيء يلمع في أحد الأركان .... كان عقداً من العقيق الأحمر النصف شفاف محاطاً بالفضة المشغولة ......لمعت عيناه كالبرق وهم أن يلمسه بيده عندما جاءه صوتها من الخلف: - هل شربت؟ التفت لها وهو يجمع شتات نفسه التي فرقها رؤية العقد الثمين..... - نعم... - إذن اعتقد أنه يجب أن تنصرف. - لماذا؟!!!!! - لأن هذا بيتي وأريد أن أخلو فيه بنفسي......هل عندك مانع؟!!!! ابتسم في مكر : لا........ التفت ليضع الكوزمكانه ولم يشرب منه رشفة واحدة فقد ضاع عطشه.....لقد إرتوى بمنظر العقد البراق....القى عليه نظرة خاطفة ثم غادر المطبخ وقبل أن يذهب اقترب من وجهها وهويقول مبتسماً: إذا احتجت لأي شيء أنا موجود.....لا تترددي في الطلب فأنا تحت أمرك..... لم تبتعد عنه ولكن وقفت صامدة صامتة تنظر له في إشمئزاز وإحتقار ولم يعر نظراتها إهتماماً....يمد يده ليمس ضفيرتها الطويلة وهو يكمل حديثه: .....أم أن صخر يقوم بكل شيء.؟ ابعدت يده في عنف لم يتوقعه فابتعد عنها وابتسم : لا بأس ....سأذهب....ولكن لنا لقاء..... مضى وهي تتابعه من خلف النافذة وكل مشاعرها تنطق بالضيق والقرف منه..... القت بنفسها فوق السرير وأغمضت عينها......كأنها تسمع صوت والدها يناديها ....تفتح عينها .إنه الوهم يعاودها من جديد ...... نهضت من السرير ووقفت في النافذة المفتوحة تطالع الأفق الأصفر ...... ----------------------------- دخل حسان على أمه في غرفتها الصغيرة وهي تعجن الخبز الذي تبيعه في الواحة وما إن رأته حتى غضت بصرها كالعادة نافرة منه. - هل عندك طعام؟ لم ترد عليه،نظر لها بضيق ونظر للعجين في غضب ومط شفتيه ثم بصق على الأرض وأنطلق يفتش على شيء يأكله. وجد بقايا خبز وقطعة من الجبن وبعض ثمار الطماطم فالتهمها جميعاً ثم فرد فرشته والقى بجسده عليها : لا أريد إزعاجاً قبل حلول الغروب فلدي عمل كثير بالليل. رمقته بغضب نافر وحزن أرهقته الأيام حتى صار شاحباً فأعطاها ظهره وأغمض عينه لينام ولكن منظر العقد الثمين في بيت مهرة لم يفارق خياله،واحتلت رأسه فكرة واحدة : أن يصبح هذا العقد ملكه،ولكن كيف؟!!!! كان هذا هو السؤال الذي ظل يبحث له عن جواب طوال الطريق ولم يجد. - أنام الآن وفي الليل تأتي الأفكار عندما أعود للواحة......

0 comments:

 
template by suckmylolly.com flower brushes by gvalkyrie.deviantart.com