(10)
في المرسم كان يجلس......الساعة تشير للواحدة ليلاً ......ينظر للوحات المنتشرة ......يتذكرها حين كان يراقبها وهي ترسم ........تقف في بنطلونها الجينز الفضفاض والقميص المشمر الأكمام تتدلى ضفيرتها الطويلة خلفها......يتذكر حديثهما......
- مازلت هنا يا ولدي؟
يتنبه على صوت دادة خديجة ......
- نعم يا دادة....
تقترب منه ونظراتها الحانية تشمله: أنا أيضاً أفتقدها كثيراً.......
يصمت وهوينظر للوحة التي لم تكملها- تحمل ملامح أمها كما حاولت تخيلها- مازالت تقف على عمودها الخشبي
- أنت من أصر أن تذهب بمفردها دوننا.......كنا نستطيع الذهاب معها......
- هذا الأمر ينبغي أن تقوم به بمفردها ولكن لو إحتاجت إلي في أي لحظة ستجدني معها.....
- ماذا تخشى يا بني؟
- أخشى أن لا تعود.
- لا تقل ذلك ستعود بإذن الله....
- أعلم هذا ولكن ما أقصده أن تلك التي عرفتها يوماً وأحببتها وأحبتني قد لا تعود.....ربما تعود شخصاً جديداً بعد أن تعرف نفسها وتكتشف إجابة الأسئلة التي تدور في رأسها......
- أنت من ساعدتها على ذلك......
- ولست نادماً على شيء ...ولكن....لم أكن أعلم أنني سأفتقدها لهذه الدرجة.....
- منذ أن فقدت والدها لم تتعلق بشخص كما تعلقت بك........لا تخشى شيئاً .......لقد ربيتها وأعرفها جيداً وأثق أنها ستعود......
نظر للوحة.....
ربتت دادة خديجة على ظهره بحنان : يجب أن تنام قليلاً .......
- هل أستطيع قضاء الليلة هنا؟؟؟
- لا بأس...
----------------
ألقى بجسده على فراشها الصغير.........
- ترى ماذا تفعلين الآن؟!!!!!
صوتها يتردد في أذنه:
- سأعود ولكن هل تعدني بشيء؟
- أي شيء....
- عندما أعود أريد أن أتعرف على والدتك .....تعدني؟
لم يرد عليها ولكنه يشعر منذ الأمس برغبة في زيارة والدته من جديد....فجأة ودون أن يفهم السبب شعر بسحابات الغضب تنحسر تدريجياً ....تذكر ما قالته أمه في الزيارة الأولى:
لن تفهم ما أعنيه إلا إذا عشت موقفاً مشابه.....ربما إذا احببت يوماً وتعارضت أهدافك في الحياة مع من تحب عندها ستكون في موقف إختيار ......ترى ماذا سيكون قرارك يا بني؟!!!!
لم يكن مقتنعاً تماماً برحلة مهرة أو جدواها...بل كان يخشى الفراق ...كان يشعر أنه يستطيع أن يمنحها ما تحتاج وما تبحث عنه عند أهل تتوهم وجودهم...ولكنه لم يشأ أن يفرض رأيه هذا عليها...أرادها أن تخوض التجربة ...وضع ثقته في الله أولاً ثم في حبهما الذي يملئ نفسيهما معاً....قرر هو أيضاً أن يخوض التجربة معها...تجربة الفراق ...الثقة فيما بينهما...حرية الأختيار التي لا تتعارض مع إرتباطهما الخاص....
- ستعود....
أراد أن يتجنب في علاقته معها ذلك الخطأ الذي وقع بين أبويه...بعد أن إتخذ قراره وبدأ تنفيذه فعلاً شعر بالغضب ينحسر ويحل محله نوع من التفهم...شعر برغبة في تكرار الزيارة للعاصمة...أن يرى أمه...
---------------------------
سمعت جرس الباب يرن ....كان الوقت مبكراً ...حدثها قلبها أنه هو قبل أن تفتح...أسرعت نحو الباب...
كان يقف ناظراً لوجهها وعينه تضطرب ...دعته للدخول ...كيانها كله يهتز من فرط الإنفعال....
- كيف حالك يا بني؟
- بخير...وأنت؟
- في أحسن حال منذ رأيتك...
عيناه تلتقط تلك الصورة التي تجمعه معها في حفل تخرجه من المدرسة الثانوية....لم يكن أباه موجوداً في هذا اليوم...
كان مسافراً لحضور مؤتمر مهم ....وكانت هي كالعادة من تتواجد كما تعود معها طوال حياته...لا تتخلف يوماً عن شيء يخصه...دائماً معه...
تلتقط نظراته إلى الصورة...كانت آخر صورة تجمعهما معاً ....
- كنت أعد الإفطار...تفطر معي؟
- لست جائعاً ...
- هل ستتركني آكل بمفردي؟؟
نظر لها ...عيناه فيهما حنين..أختفى الألم...تلقت النظرة بذلك الرادار السحري القابع في أعماق الأم حتى قبل أن يرسل النظرة نحوها ...بمجرد أن وقع نظرها عليه وهي تفتح الباب - ورغم إضطرابات العينين فلا تستقر لها نظرات واضحة تحمل معنى -،فقد تمكن ذلك الرادار داخلها من إلتقاط أول الإشارات...إشارات الحنين ...
- بدأت أشعر بالجوع...
خرجت الكلمات بعد فترة صمت قصيرة ...في سعادة غامرة، كمن تحققت له أعز أمانيه، أسرعت نحو المطبخ...
- حالاً سيكون الإفطار جاهزا ً...
مرت سنين طويلة منذ آخر مرة تذوق فيها طعامها...كانت له نكهة خاصة..نكهة مخلوطة بأنفاسها ..شيء يتسلل له مع طعامها ...شيء كالألفة التي تخلق الراحة ...
تركته يتأمل الكتب الكثيرة التي إكتظت بها المكتبة وأسرعت تنادي البواب وتعطه قائمة طويلة من الطعام ليشتريه لها...تشعر برغبة في الإحتفال...لم يتحدثا بعد...لم تعلم لماذا عاد...ولكنها تثق أنه سيبقى.
الجمعة، ١٧ أكتوبر ٢٠٠٨
الاشتراك في:
تعليقات الرسالة (Atom)
0 comments:
إرسال تعليق