أسندت ظهري على الكرسي أراقب حركات المياه والعديد من المسافرين ينتشرون فوق سطح الباخرة
يستمتعون بالمنظر والهدوء .
في كراستي أكتب تاريخ اليوم وبعض سطور:
( اترك كل شيءٍ خلفي وانطلق في ذلك الطريق دون تفكير........دون إراده، كأنني مسحورٌأو مُنقاد، وكأن عقلي قد تخلى عني للحظات وسمح للهوى بأن يتدخل ليُسير حياتي كما يريد.)
توقفت عن الكتابة وسرحت مع المياه وعقلي يفكر:
لا، ليس الهوى فلو كان هو من يسيرني لعاد بي..عاد إلى ذلك العالم الذي انطلقت وتركته خلفي رافضاً كل شيءٍ به وكارهاً مجرد لحظة تواجدي فيه. ليس الهوى هو قائدي..
شطبت الجمل الأخيرة وعدت أكتب :
(اترك كل شيءٍ خلفي وانطلق في ذلك الطريق دون تفكير......دون إراده، كأنني مسحورٌأو مُنقاد، هي رغبة دفينه بداخلي للتحرر من كل القيود..قيود العقل والقلب معاً....ربما لحظة جنون..ربما لحظة تمرد..أو ربما لحظة صدق مع النفس قد لا تتكرر كثيراً..مهما كانت هي ..فلتكن كما تكون ولكنني لن اتدخل الآن ..سأترك كل شيءٍ يسير وفقاً للأقدار..ولأنطلق في ذلك الطريق.. .... في النهر..رحلةٌ تبدأ من المصب الى المنبع..أو بأتجاه المنبع..الى أعلى النهر ..مغامرةٌ قد تكون ..شيءٌ غير محسوبٍ أو محدد ..مجرد انطلاقه قد أصل منها لشئ أو لا أصل على الأطلاق ....)
عدت أتأمل المياه تسير بجواري........عدت أتأمل صورة باهتة من حياتي...... تعودت منذ الأزل أن اخرق كل القوانين التقليدية العتيقة وانطلق فوقها بكل عنادي ورغبتي في التغيير حتى أصل لما أريد ..لم تستطع نفسي أن تسير بكل هواده وطاعه مع أصول الأمور ..مع النظام السائر والقواعد الموضوعه المضبوطه منذ الأقدمين..كانت دائماً ما ترفض وتتحايل لتنطلق فوق كل شيءٍ موضوع ومنظوم..تريد أن تخرق الأشياء وتغيرها وتبدلها..كنت دائماً ما اصطدم بالعوائق والمثبطات ولكنني لا أقف ..استمر في طريقي مؤمناً بما أريد وما أحلم ..حتى كانت تلك اللحظه التي يجب وأن تمر بكل إنسان خلقه الله على وجه هذا الكون.... لحظة الضعف الأنساني.....
فتحت صفحة جديدة في الكراس وكتبت:( لحظة الضعف........إنها لحظة يصبح فيها البشر غير قادر على أن يكون نفسه كما يريدها بل يكون كما تريدها هذه اللحظه بكل أحداثها وشخوصها وملابساتها.. يصبح إنساناً مختلفاً في أفكاره واتجاهاته وميوله وافعاله..مجرد لحظه يفقد فيها نفسه فيفقد كل شيء..ومهما حاول أو قاوم..لا يفيد فالقدر واقع لا محاله وكل إنسان يجب أن يجرب ويمر بها وينكوي بنارها..نار التخلي عن كل شيءٍ للحظه هي كل شئ..ثم نار الندم بعد أن يفيق من غيبوبته ويكتشف ما كان وما سيكون..)
تساءلت مع نفسي: هذا كله لمجرد لحظه؟..فما بالها إن كانت لحظات..بل أياماً، وسنين طويله تبدأ بلحظة جباره تفقد الإنسان ذاكرته وتخلق له ذاكره وكيان جديد يعيش به كل هذه السنين حتى تأتي الصدمه فتعيد له الذاكره ليكتشف كل الحقيقه..... أنه إنسان ضعيف.
متى حدث ذلك؟!!!......ربما منذ التقيت بها......زوجتي الجميلة الساحرة الثرية
حدث كل شيءٍ دون تفكير..أحببتها..وكان هذا هو ضعفي الذي لم أستطع أن أهرب منه طوال سنوات عشتها في ذلك الوهم .. هي أيضا عملت بإستمرار على أن لا أفيق من ضعفي..بل كانت تستخدمه لصالحها....قالت أن هذا حباً..أنها تريد أن أظل دائماً لها ..أن نظل سعداء..وكنت أصدقها..واستمر في الأستسلام لما تريد..تخليت عن كل شئ..عن عالمي وكياني وعن نفسي وأفكاري وانطلقت أعدو في عالمها بكيان مختلف ونفس غريبه ولكنني لم أهتم..انطلقت وهي تغزيني بالوقود..جمالها وحبها وكلماتها ورقتها..كل شئ تستخدمه بكل حكمه لتدفعني في طريق هي ارادته ورسمته..واصبحت مثل الأخرين أسير وفقاً للقواعد والأصول ..لا اخرج عن جادة الطريق أو احاول التغيير والتمرد..لقد اصبحت قطاً اليفاً بين يديها.
صوت ضحكة ناعمة تصل لآذاني وتلفت حولي لأرى تلك المرأة تتناغم في حديث هامس مع جارها الجالس بجوارها .
ابتسمت ......إنها تشبهها وربما تحاول الآن مثلها أن تفرض كيانها على ذلك الجالس معها لتضعه في حيز وجودها وتستقطب كل حواسه وأفكاره وحياته لتخلق منها كياناً جديداً يصلح لها.
عدت لذكرياتي وأفكاري ......لقد مرت السنين ،ثم انقلب كل شئ بداخلي..التقيت بنفسي الغائبه وتواجهت معها. التقيت معها في صورة تلك الفتاه .."ليلى" ،التقيتها في لحظة أيضاً ..ولكنها غير كل اللحظات..لحظة قوة..لحظة تمنح الأحساس بالجمال وتجعل النفس قادرة على الحياه برغم كل ما بها من مشاق..لحظه تهز الكيان كله جعلتني أتجول دون ان أدري في أيامي وماضيّ ومستقبلي..هذا ما فعلته "ليلى"..فعلته رغماً عنها وعني..
وليلى ليست كزوجتي الجميله الرقيقه الناعمه.... إنها تفتقد للقدره على الرؤيه والسمع والكلام..
تبسمت لنفسي وأنا أتمتم :هذه هي الحقيقه إنها عمياء وصماء وبكماء..
لعل وجودها في الحياة رغم كل ما بها من إعاقات جعل صدمة رجوعي لنفسي من خلالها ممكنه..لقد ذكرتني بما كنته..بذلك الإنسان الذي كان يرفض الموضوع والمنظوم والمعقود..الذي كان يرحب بالسير عكس كل القواعد الباليه والأنطلاق فوق الأشواك..الذي كان يتحرر من قيوده ليرسم خطوط الحريه ليس من أجله فقط بل للجميع.."ليلى" التي ظننت أن أعاقتها قد قيدتها هي التي ذكرتني بكل ذلك..فهي كذلك.
أغمضت عيني لأسترجع ذلك البريق المُصر في عينيها - برغم فقدهما للقدره على الرؤيه- ..وخلايا وجهي تتذكرحركات أناملها عندما مرت بها على وجهي تستقرأ كل خلجه فيه عن ماهيتها تماماً كما تمر بها على كل شيء تقع عليه يديها لتقرأ حدودها فتراها..
الغريب أنها كانت تعرف ما أحاول إخفاءه عنها كلما مرت بأناملها تتحسس وجهي كانت كالساحره التي تستطيع أن تقتلع من خلايا جلدي ما يشعر به قلبي من أمور..كيف كانت تفعل ذلك ..ربما لن أعلم إلا إذا فقدت القدره على الرؤيه مثلها..لكم تمنيت ذلك فلربما عندها اصبحت قادراً على رؤيه أفضل للبشر..كانت تسمع عن طريق أناملها أيضاً..تضعها على شفتي حين أتحدث فكأنها تسمع كل ما أقوله لها من كلمات..لكم أحببت تلك الطريقه..حاولت أن أجربها..كنت أغمض عيني وأضع يدي على شفتي وأتحدث بصوت غير مسموع..ثم أنتبه لنفسي وأضحك....وتسألني لماذا تضحك..فأخبرها..وتضحك بدورها ..
كانت تتحدث معي بالأشارات ..أيضاً تستخدم أناملها العزيزه ..تعلمت لغة الأشارات خصيصاً من أجل أن أفهمها وهي تتحدث ..لم أعكف على شئ مثلما عكفت على ذلك الأمر منذ أن التقيت بلحظة ضعفي..زوجتي.
عدت أكتب في كراسي : (ليلى ....كانت عالماً من الحياه يدب بداخلها وحولها على الرغم من كل شيء..وكانت خير مثال على الخروج عن المألوف والقواعد..كانت الشاذ من بين تلك القواعد..وعندها بدأت أتذكر نفسي..كيف كنت وكيف أصبحت..تذكرت ضعفي..تذكرت تلك التي أحببتها وبدأت أفكر..ومع بداية تفكيري بدأ كل شيء بداخلي يأخذ مساراً مختلفاً..بدأ يعود تدريجياً ليسير عكس التيار ..بدأ يعود لنفسه..وبدأت أعود لنفسي )
توقفت عن الكتابة وابتسمت في أسى..... الأمر لم يكن بهذه السهوله..كانت هناك الكثير من الضرائب التي لا بد أن أدفعها ..وزوجتي الرقيقه الوديعه لم تعد كذلك بعد الآن..تحولت هي الأخرى..اصبحت شخصاً لم أعهده من قبل..وبدأ كل شئ يسقط من حولي..كل الكيان المبني على الضعف والأستغلال والزيف..وتماماً كما يحدث عندما نحاول أن نعاكس سير الأشياء فلا بد من زلازل وبراكين وغيرها من الأمور ولكن هذا لا يهم فقوتي بداخلي قد عادت مع"ليلى" التي أعادت إليّ الحياه.....ثم بدأت تنسحب شيئاً فشيئاً من حياتي..بدأت تبتعد..
سألتها لماذا؟......أجابتني بأناملها الرقيقه :( .إنه طريقك أنت.. يجب أن تسيره بفردك لتكون أنت..بعيداً عني وعن كل الأشخاص يجب أن تجد الطريق الذي تريده بنفسك........).ولم تكمل فقط أختفت من أمامي..
تنهدت.....مرت الأيام وأنا في حيره وتفكير..أشعر بأنني كنت أمسك بشيءٍ يهديني الطريق ففقدته وضللت..بدأت أشك فيما أريد وما أتمنى..ما أحلم وما أسعى له..مرت الأيام وأنا لا أفعل شيئاً غير التفكير بلا هدف أو نقطة التقاء للأفكار..ثم جاءت تلك اللحظه..قررت أن أنطلق في ذلك الطريق دون تفكير..دون إراده كأنني مسحوراو مُنقاد وكأن عقلي قد تخلى عني للحظات..قررت في لحظة صدق مع نفسي أنني يجب أن أبتعد لعلي أجد نفسي في مكان ما بعيداً عن كل شئ..وقررت الرحله إلى أعلى النهر..
عدت أكمل كتابتي في الكراس:( ॥رحلةٌ تبدأ من المصب الى المنبع..أو بأتجاه المنبع..إلى أعلى النهر ..مغامرةٌ قد تكون ..شيءٌ غير محسوبٍ أو محدد ..مجرد انطلاقه قد أصل منها لشيءٍ أو لا أصل على الأطلاق ...........وللمصادفة فإن رحلتي هذه هي رحلة عكس التيار)
كتبت لأول مرة في عام 2001
0 comments:
إرسال تعليق