الثلاثاء، ١٤ أكتوبر ٢٠٠٨

البيت الخشبي

(1) كان يوماً من الأيام التي تمر عليها ..... ورغم كل القوة التي تتمسك بها في نفسها ورغم كل العالم المليء من حولها بالأصدقاء والأحداث إلا أنها كانت تشعر في هذا اليوم برغبة شديدة .... أن تراه...ترى والدها الراحل ...... ذهبت للقبر ولم تقف ثواني معدودة فقد شعرت بالضعف يزحف لها وبدموعها قد بدأت تتكون وهي تخشى ذلك وتتحاشاه وترفضه بقوة........ ذهبت سريعاً وسيل من المشاعر المتناقضة والمتزاحمة يتصارع بداخلها ....... أخذتها قدماها لصديقها الوحيد.... البحر ..أمواجه ...صخوره ..... جلست هناك تراقب في صمت...... أمضت الخمسة أعوام بعد رحيل والدها على شاطيء البحر ...منزلهم هناك يطل على الأمواج التي تضرب الصخور وتتلقاها الصخور في صلابة فتتكسر الأمواج فوقها وتتفتت وتعود لتنحسر بعيداً معلنة هزيمتها....هكذا كانت تظن... قال لها والدها يوماً : الأمواج لم تنهزم.....ولكنها تحاول مرة ومرة وبعد سنين تتآكل الصخرة وتنتهي أشلاؤها في أعماق البحر وتبقى الأمواج...... فاجأها بهذا الكلام.....غيّر كل الفكرة التي تصورتها يوماً وتعلمت أن تصبر وتحاول حتى تصل لهدفها مهما كان صعباً أو مستحيلاً حتى وإن كانت تضرب في الصخر فيوماً سيتفتت تحت قبضتها.....وشعرت بالقوة وعاشت مع والدها قوية حتى تركها. حاربت نفسها وصممت أن تحتفظ بقوتها ومضت تحيا الخمسة أعوام تسير في حياتها ।
دخلت المرسم الصغير......اللوحات يزدحم بها المكان ......كلها لوحات والدها وقليل من لوحاتها الخاصة تنزوي في ركن ....... غادرها والدها دون توقع..... كانت في الثالثةعشرة من عمرها عندما تركها صباحاًُ في سريرها بعد أن ودعها بقبلة على جبينها ولم يعد......أخبرتها الست خديجة وهي تضمها لصدرها بحنان وشفقة أنه مات. لم تره، فقط شاهدت النعش يدخل في باطن الأرض ويغيب فيها وهي تقف في سوادها لا تدري ماذا تفعل....الست خديجة تبكي وهي أيضاً ترغب في ذلك ولكن الدموع تعصاها.....منذ ذلك الوقت أصبحت وحيدة.....تعيش مع الست خديجة التي ربتها منذ نعومة أظافرها والتي أصبحت المسئول الوحيد عنها بعد رحيله ،فهي لا تعرف أقارب أو أهل غيرها.... نظرت بجوارها لصورته الصغيرة داخل الإطار... تبتسم وسط زلال الماء المتجمع بين الجفنين.... كانت تبتكر المحاولات لتضحكه ولتخرجه أوقاتاً من سكاته الطويل وسرحته الدائمة مع نفسه . تعلمت الصمت منه.....كان يغيب عنها أوقاتاً يجلس في هذا المرسم الصغير ويلعب بألوانه وفرشاته....تتسلل له في صمت وتجلس في ركن بعيد تراقبه.....لا يشعر بها فهي هادئة ساكنة وهي تستمتع بوجودها بجواره في صمت..... قد تنام في ركنها المنزوي وتستيقظ في الصباح لتجد نفسها نائمة على السرير بجواره. حاولت أن تلعب بالألوان مثله....أمسكت بلوحة وبدأت العمل وهي مندمجة......كلما نادتها الست خديجة لتتناول الطعام أو تستذكر دروسها كانت تصيح بها: أنا أرسم......أريد هدوءاً ....أنت مزعجة يا دادة خديجة...... فتضحك الست خديجة وتتركها حتى يأتي والدها من الخارج. كانت تسأله دائماً: ماذا ترسم يا بابا.... - أرسم أشياءاً ..... - ما هي؟ - لست أدري على وجه التحديد.....إنه إحساس يخرج مني وتشكله الألوان حتى يصبح كما ترين..... تنظر للوحة..... - أنا لا أفهم منها شيئاً - ليس بداخلك نفس إحساسي......ولكنك قد تصلين منها لشيء......إحساسك الخاص قد يتداخل معها لتفهميها بطريقتك أنت. - حتى هذا لا أستطيعه. - حاولي.... ومنذ ذلك الوقت تحاول..... وقفت أمام اللوحات المبعثرة في المكان....... اللوحات التي القت عليها بألوان فرشاتها..... تشعر بالرضى عندما تملئ الصفحة البيضاء بالألوان وخاصة ألوانها الأثيرة...... الأزرق والأصفر.... تستعمل اللونين بغزارة. كانت تهرب دائماً مع الألوان وللألوان ،وعندما تعجز فرشاتها عن خلق ذلك العالم اللوني الذي يتصارع بداخلها تهرب للفضاء ،للبحر أو الصحراء........تعلمت كل ذلك من والدها وتشربته وانتقل لها مع الهواء الذي كانت تتنفسه وهي تجلس صغيرة تراقبه في مرسمه الخاص............ دخلت الست خديجة: الغداء جاهز يامهرتي الصغيرة.... كالهمس ردت: أنا قادمة يا دادة.....
على المائدة، مازالت تغوص في أفكارها وذكرياتها ، أو مازالت الأفكار والذكريات تغوص فيها....عندما تكون في هذه الحالة لا تدري أيهما قد تشبع بالآخر.....هي من تشبعت بأفكارها أم الأفكار تشبعت بها كانت إجازة الصيف قد بدأت منذ أيام.....وبدأت معها تلك الحالة التي تتكرر كل عام منذ فقدت والدها في مثل هذا التوقيت..... في فترة الدراسة كانت تغوص في كتبها ودروسها وأصدقاءها نهاراً ، وتسهر مع لوحاتها وألوانها ليلاً ....كان الوقت قليلاً أو هي كانت تتعمد تقليله قدر المستطاع حتى تهرب من عقلها وأفكارها السارحة.... وعندما يبدأ الصيف ، يصبح النهار ممتداً طويلا ً...والوقت مهما حاولت يظل منه الكثير متربصاً بها منتظراً يمهد لهجوم الأفكار والذكريات على عقلها وقلبها الصغير..... بجوارها كانت تجلس دادة خديجة تسترق النظر لوجهها ...تقرأ عليه علامات الإجهاد والحيرة والحزن... ربتها منذ كانت رضيعة وتعلمها جيداً ...تستطيع أن تقرأ صفحة وجهها دون أن تتحرك شفتيها لتعلن ما يجول بخاطرها....وقليلاً ما تتحرك شفتيها...فهي تعلمها، تفضل الصمت وتغلق باب نفسها على ما بداخلها لا تبوح به لأحد....فقط كانت تبوح لأبيها وتجلس معه بالساعات يتحدثان ويضحكان ، أو يصمتان تاركين الألوان تتحدث على الصفحة البيضاء في المرسم الصغير ....يلفهما صمت الكلمات وتنتشر بينهما لغة الروح والمشاعر والألوان... ترفع دادة خديجة نظرها لوجه مهرة السارح ، ورغم صمت مهرة فهي تعلم جيداً ما يدور في عقلها وما لا تبوح به مشاعرها... ذلك السؤال الذي تحاول الهروب منه ثم تعود له تحاول البحث عن إجابة له بين طيات الذاكرة وخطوط الفرشاة على لوحات أبيها وتلك المقتنيات القليلة التي كان حريصاً عليها في حياته وكلماته المقتضبة عن أمها الراحلة.... تعلم دادة خديجة أن الصغيرة منذ بدأ وعيها يتفتح جبراً وقسراً بعد فقدها لأبيها تحاول أن تجد لنفسها مكاناً في هذا العالم...مكاناً به أناس ينتمون لها وتنتمي لهم....أناس تعتمد عليهم وتثق بهم ...يمنحونها الأمان والحماية والحب . تعلم أن الصغيرة تبحث بقلبها عن الأهل وتبحث بعقلها عن إجابة للسؤال...هل هذا العالم من حولها لا يوجد فيه من البشر من يهتم لأمرها غير والدها الراحل ومربيتها المخلصة.....هل هي وحيدة.... رغم كل الأصدقاء والأحداث...... رغم نجاحها وتفوقها الذي لم تتصوره مربيتها نفسها والتي أعتقدت أن وفاة الأب سيؤثر على طفلتها سلباً ، رغم هوايتها التي برعت فيها ونالت عنها الجوائز ....رغم شخصيتها الودودة وخلقها المهذب وجمالها الهاديء المحبب للنفس الذي يجعل من يعرفها يألفها ويصادقها...رغم كل ذلك فشعور الوحدة يحتلها ويشعرها بالضعف....كيانها الصغير في مواجهة هذا العالم....أي رهبة وأي خوف وأي قلق يحتلها ويشملها.... كانت دادة خديجة تنظر لمهرة وهي تعلم كل ذلك ، لا تحاول أن تواسيها أو تتلطف معها في كلمات حانية تخفف ثقل تلك الحمول على قلبها وعقلها الصغيرين....تعلمها عنيدة رافضة لتلك المحاولات التي تزيد من شعورها بضعفها وحيرتها ومشكلتها التي لا تجد لها حلاً ....تعلمها آبية للإعتراف جهراً بما يدور داخلها وتفضل الصمت . كل ما تستطيع أن تفعله دادة خديجة أن تصمت...تصلي في خشوع وتضرع وتدعو الله من كل قلبها أن يعين الصغيرة كل ما تستطيع أن تفعله أن تحافظ عليها وتحفظ لها حياتها كما كانت أيام والدها الراحل معتمدة في ذلك على تلك الثروة الصغيرة التي تركها لها قبل وفاته والتي فوجئت بها كما فوجئت بتلك الوصية التي تجعلها الواصية والراعية على الفتاة وأموالها وحياتها حتى تبلغ الرشد... أفاقت مهرة من سرحتها الطويلة على صوت دقات الساعة تعلن الخامسة مساءاً ....نظرت لمربيتها ... إبتسمت لها دادة خديجة فبادلتها الإبتسام ....تحبها....كانت هي أمها الوحيدة التي عرفتها في هذه الحياة....هي الوحيدة التي تجعلها مازالت مستعدة وقادرة على الحياة ....لا تعرف ماذا سيكون الحال لو لم تكن دادة خديجة....شعرت برغبة في الإرتماء في حضنها....لم تتردد وألقت بنفسها في حضن مربيتها وإستكانت في هدوء مغمضة العينين تاركة شعرها الكستنائي المموج لمربيتها تسرحه بأناملها وتطبع بقبلاتها عليه وتغني لها تلك الغنوة التي إعتادت سماعها منها منذ كانت صغيرة.... - دادة خديجة.. - نعم يا مهرتي. - لم تعرفي أمي أبداً ؟ كان هذا السؤال يتردد كثيراً في الحوار بينهما وخاصة في مثل هذه الفترات التي تحتلها الأفكار والذكريات.... تتنهد المربية وهي تمسك بخصلات شعرها تجدلها في ضفيرة طويلة كما إعتادت مع صغيرتها. - لا يا عزيزتي.... وكان هذا هو الرد الدائم الذي لا تمل المربية من ترديده في صبر وهدوء ....تعلم أن صغيرتها تصدقها ولكنها تتمنى بخيالها ومشاعرها لو كانت مربيتها تعلم....لذلك كانت تردد السؤال كل فترة وتتلقى نفس الإجابة في صمت. - متى كانت أول مرة رأيتني فيها يا دادة؟ - كنا في الشتاء وجئت لهذا المنزل مع أحد أقاربي لأعمل مربية لك....كنت صغيرة جداً لم تكملي عامك الأول بعد ، وعندما وقع بصري عليك دخلت قلبي وروحي لحظتها ، لم أنجب في حياتي وقررت أن تكوني صغيرتي التي لم أنجبها...حمدت الله عليك وعشت معك ومع والدك طوال هذه السنين وكل يوم أشكر الله على هذه العطية الرائعة. أفلتت مهرة من بين يديها في مرح وشقاوة وقبلتها - وأنا أيضاً يا دادة أحبك وأحمد الله عليك. ضحكت المربية في سعادة وهي ترى المرح يملاء وجه صغيرتها ، لا تدري هل هو مرح حقيقي أم محاولة منها للهروب من تلك الحالة التي كانت عليها منذ لحظات ....المهم أنها الأن قد عادت لطبيعتها المحببة .... - هل ستخرجين لأصدقاءك؟ - لا، سأدخل المرسم ....أريد أن أكمل لوحتي فقد إقترب ميعاد المسابقة.

0 comments:

 
template by suckmylolly.com flower brushes by gvalkyrie.deviantart.com