أشرقت الشمس منذ قليل،أشعتها تتخلل الشيش المغلق لتلقي ببعض الضوء داخل الحجره الصغيره الساكنه،وبرغم ذلك اللون الداكن الذي يشمل الغرفه فإنك تستطيع أن تلمح موقد الغاز في أحد الأركان وبجواره طاوله خشبيه منخفضه رُصت عليها العديد من الأكواب المتسخه وبها بقايا الشاي الحبر الثقيل . كل ما يملكه الشخص القاطن هنا من مجموعة الصحون المختلفه هو تلك الأكواب ومعها ذلك البراد الذي لا تستطيع تمييز لونه ربما بسبب ضعف الضوء في المكان أو أن لونه الحقيقي قد تداخل معه وأمتزج به ألوان أخرى كثيره لا تدري من أين أصابته،وبالطبع بعض الشاي الجاف وكيس من السكر لا بد أن يتواجد بالجوار،ثم هناك ذلك الكرسي وسرير وقد وضعت عليه مجموعه من الأغطيه والملابس التي تكومت على بعضها ووضعت بإهمال على تلك الملأة التي ربما كانت بيضاء اللون في يوم ما .هذا فقط كل ما يمكن أن تقع عليه عيناك هنا،لا..انتظر..تلك الكومه المهمله تتحرك على السرير،إنها تتقلب ويصدر مع تقلبها صوت سُعال مرتفع والسرير يهتز مصدراً صوت صرير يكاد يتنافس مع صوت السعال أيهما يعلو الآخر ويتفوق عليه.تقترب من ذلك النائم لعلك ترى وجهه أفضل،ولكن ملامح البشره الداكنه لا تتضح مع ذلك الضوء الخافت،ثم ما تلبث أن تلمح العينان تبرقان فجأه وتنظران في كسل إلى الحائط المواجه ويبدأ في التقلب والسعال مرة أخرى ثم يهم بالنهوض وما زال السرير يصاحبه بسمفونية الصرير المنفرد أحياناً،وأحياناً أخرى بالأشتراك مع كونشرتو السعال والتثاؤب،وصوت العظام تُطرقع وهو يشد من جسده ويتمطع ليطرد عنه الكسل.
يتجه بخطوات بطيئه للنافذه ليفتحها فيدخل الضوء غازياً الغرفه .الآن نستطيع أن نرى أفضل تلك الحوائط العاريه الرمادية اللون والتي تقشر عنها بعض "المونه" في بعض أجزائها ليطالعنا الطوب الذي كان أحمراً يوماً ما والآن لونه يقترب من لون ذلك الحائط.ما زال "عم رزق" يتثائب وهو يمسك بالبراد بيده متجهاً لخارج الحجره ولكنه قبل أن يخرج من الباب يعود وكأنه تذكر شيئاً ما يتجه إلى السرير ثم يجثو على ركبته ويرفع الملأة ويصيح بصوته العالي المبحوح وهو يهز تلك الكتلة السوداء الملقاة على الأرض:أصحى،أصحى يابني النهار طلع
ثم يبدو أن صبره لا يحتمل أكثر من تلك الثواني فيعود رافعاً صوته بنبره أعلى ويشتد أهتزازه لذلك الذي اتضح أنه شخص نائم أسفل سريره:
- ما تجوم بجى،هو أنا هأجعد أصحي فيك طول اليوم ولا أيه،ما وراناش غيرك إياه ..
ولكن لا يوجد أي رد فعل من ذلك الشخص،تلك الكتله السوداء تبدو كأنها متجمده في مكانها لا تستجيب لأي شئ،ولكن "عم رزق" لا ييأس،يعود ليصرخ هذه المرة وهو يضرب النائم بقبضته في كتفه:
- ما تغلبنيش أُمال،يا دي الشغلانه كل يوم،جوم يا أبني وخلصني.
وهنا فقط يبدو أن ذلك النائم قد صعُب عليه حال "عم رزق "وفقده لصبره وصوته المبحوح الذي تشك أنه سيفقده إذا صرخ أكثر من ذلك فتبدو منه حركه بسيطه تعطي بعض الأمل على الأقل أنه ما زال في عالمنا ولم يغادره بعد،عندها نهض "عم رزق" وأتجه للخارج بعد أن جذب جلبابه الملقى بجوار السرير وكان يغمغم بكلمات تبدو كلعنات يصبها على رأس ذلك المتقوقع أسفل السرير.يعود الهدوء للحجره من جديد ولكنه فقط ثواني يبدأ بعدها صوت السرير يعلو من جديد في صريره المزعج وذلك النائم يحاول إخراج نفسه من أسفله ويقف منتصباً وهو يضع يديه خلف ظهره وينثني إلى الخلف محاولاً إعطاء عظامه بعض النشاط بعد تلك النومه على الأرض الخشنه،وعلى الرغم من أن"عم رزق"كان يرتدي الجلباب إلا أن ذلك الأخر كان يرتدي قميصاً وبنطلوناً أسودين ويبدو أنه ينام بهما،يفرك عينيه بيديه ليزيل أثر النعاس ثم يتجه هو أيضاً للخارج.
في الخارج الأرض فضاء محاطه بسورٍ عالٍ وتحدها العمارات السكنيه من كل إتجاه فيما عدا ذلك الحائط المطل على الشارع وبه تلك البوابه السوداء الكبيره.أتجه "سالم"نحو "عم رزق"الذي انحنى على صنبور المياه يغسل رأسه ووجهه قبل أن يملئ البراد لآخره بالماء
- صباح الخير يا آبى...
- صباح الخير...
يضع"سالم"رأسه كله أسفل الصنبور ويترك الماء البارد يسقط على وجهه وشعره...
- تجيلك النازله يا وله...انت ما بتحرمش...
ولكن "سالم" يظل واضعاً رأسه أسفل الصنبور وكأنه لا يهتم،ينظر له أبوه بغضب وغيظ ويعود أدراجه حاملاً البراد الى داخل الحجره ليصنع مشروبه اليومي المفضل،الشاي الحبر الثقيل سكر كثير.
انتهى "سالم"من غسل رأسه بالماء البارد ثم نظر حوله يبحث عن شئ يجفف فيه وجهه وشعره ...لم يجد...حرك رأسه بشده في كل الأتجاهات فأخذ الماء يتطاير من شعره المبلول ثم مسح وجهه في قميصه،وهكذا تصرف.أتجه إلى سيارة من تلك العديده التي تتخذ من هذه الأرض جراجاً لها ووقف أمام نافذتها وأخرج من جيبه ذلك المشط الأحمر وأخذ يصفف شعره بعنايه،إنه يشبه كثيراً أباه وخاصةً ذلك الشنب الكثيف أعلى فمه ولكنك لا بد أن تلاحظ من الوهله الأولى عندما تركز في حركاته وتصرفاته وقسمات وجهه التعبيريه أن هناك شيئاً في عقله،شئ غير طبيعي،ربما نوع من القصور الذهني ولكنك دوماً لن تستطيع أن تعرف فيما يفكر أو ماذا يحمل بداخل ذلك العقل،إنه دائماً يفاجأك،للحظات قد يبدو عادياً وفي أخرى تصدر عنه تلك الأفعال التي قد يمكن أن نتقبلها من أطفال أكثر ما يمكن أن نتقبلها من شخص قد وصل لمثل سنه ولكنه في كل الأحوال يحاول أن يكون بعيداً عن المشاكل،يرى ويسمع ويتأمل ولكن هذا لا يمنعه من الأتيان بأشياء بعيده عن العقل في لحظات..
كان قد انتهى من تصفيف شعره عندما اقترب منه "عم رزق"حاملاً صينيه صغيره عليها كوبين من الشاي وبعض الأرغفه وقطعة من الجبن الأبيض،جلسا على ذلك المقعد الخشبي وتناول"سالم"بعض اللقيمات الصغيره ثم التقط كوب الشاي يرتشف منه ويبدو وكأن لا شئ يشغله أكثر من شرب ذلك الكوب الآن..إنه يحتسيه على مهل رشفه رشفه وبعد كل رشفه يجلس متأملاً الكوب وما به من سائل ويمصمص شفتيه ويظل يبتلع في ريقه كأنه يريد أن يتأكد من إبتلاعه لكل الجرعه قبل أن يصب المزيد في فمه.
صوت شخص يدق بشده علىالباب الأسود الكبير وينادي بصوت عالي على"عم رزق" وعندها ظهرت تلك الكلاب الأربعه متجهه نحو الباب وهي تنبح.ترك"عم رزق"كوب الشاي واتجه مسرعاً ليفتح الباب،أما "سالم" فقد شدته الكلاب الأربعه أكثر الآن من كوب الشاي فتخلى قليلاًعن إستمتاعه بأرتشافه وتأمله لذلك السائل فيه وأخذ ينظر للكلاب الأربعه ويصفر لها لتأتي إليه ولكنها لم تهتم به وأخذت تلاحق ذلك الرجل الذي دخل من الباب بعد أن فتحه "عم رزق"ليركب سيارته..اسرع"عم رزق"بإزالة ذلك الغطاء عن السياره وطيه ثم وضعه في حقيبة السيارة التي فتحها صاحبها..وتبادل حديثاً قصيراً مع الرجل في تلك الأثناء حول الطقس البارد والشاي الساخن الذي يمنح بعض الطاقه ليبدأ اليوم ثم عزم على الرجل بكوب الشاي ولكنه شكره وانطلق بسيارته مسرعاً.
أغلق عم رزق الباب الأسود الكبير وعاد إلى كوبه ومازال "سالم"يرتشف شايه ثم يبدو أنه ملّ من تلك الرشفات فأفرغ الكوب بأكمله في فمه مرة واحدة وبشكل مفاجئ والقى الكوب في الصينيه ثم قام يبحث عن الكلاب التي اختفت بعد ذهاب الرجل..لا أحد يعرف ذلك السر الذي يربط بينه وبين تلك الكلاب الأربعه صديقته الوحيده في هذه الحياه ..ربما يرى فيها شيئاً إنه تقريباً يقضي جزء كبير من وقته يراقبها ويصفر لها ويجلس على مقربة منها يتابعها ويتأمل أفعالها ثم ما يلبث أن يشرد عنها أحياناً ويسبح بعيداً في عالم آخر لا أحد يدري ما به،ثم يعود ثانية ليتابعها .وعلى غير توقع كعادته يقوم فجأة ويسرع الخُطى متجهاً نحو تلك الشجره الكبيره في صدر المكان،يقف خلفها وينتظر وعينيه تنتقل بين نافذتين في عمارتين متقابلتين من تلك العمارات التي تحيط بالجراج ثم ما يلبث فمه أن ينفرج عن إبتسامه طفوليه وعيناه تبرقان وهو يشاهد إحدى النافذتين تفتح وتخرج منها تلك الفتاه تمسك بيديها كتاباً من الكتب الدراسيه وتظل تسير جيئةً وذهاباً في البلكونه تطالع الكتاب وتقلب صفحاته ..إنها شابه تبدو في أوائل العشرين من عمرها متوسطة الطول ومتوسطة الجمال،لا شئ بها يشد الأنتباه،مجرد فتاه تطالع كتاباً أو تذاكر شيئاً وتحاول أن تجد من الجو الساكن في ذلك الوقت من الصباح وتلك البقعه الخاليه من الناس والماره والضجيج ملاذاً لها للتركيز،ولكنه ظل يراقبها وهو يختلس من وقت لآخر النظر للنافذه المقابله . بعد قليل تفتح النافذه ويطلُ منها شاب طويل أسمر له شنب خفيف ويحمل في يديه إحدى تلك التليفونات المحموله،القى نظره على النافذه المقابله ثم أخذ يضغط أزرار التليفون .اختفت الفتاه داخل الغرفه،ربما هي تضايقت من وجود ذلك الشاب في النافذه المقابله وشعرت بمتابعته لها وهي تجئ وتذهب تطالع كتابها فشعرت أن تركيزها قد تشتت وقررت الدخول حتى يُنهي محادثته ويدخل إلى غرفته فتعود لتكمل عملها.وهذا فعلاً ما حدث،لقد دخل الشاب بعد أن أنهى المكالمه وبعد ثوانٍ قليله خرجت الفتاه إلى الشرفه لتكمل ما بدأته.مازال "سالم"يتابع ذلك المشهد وهو يبتسم تلك الإبتسامه وينظر بذلك التركيز .ربما تشعرفي داخلك أنه شخص فضولي غريب ذلك الذي يهتم بمتابعة هذا الموقف الذي لا يشير لأي شئ غير طبيعي،ولكنك إذا كنت في موقف "سالم"،إذا كان لديك الوقت الكبير من الفراغ لتتأمل كل ما حولك وتتابعه بإستمرار لوجدت أنه ربما يكون على حق فيما يفعل.فذلك المشهد الذي حدث الآن يحدث كل يوم وبنفس التكرار والتتابع والتوقيت،وقد أحس "سالم"بفطرته فقط وربما بعقله أن شيئاً غير طبيعي يحدث أو ربما هو فقط أتخذ من المسأله فرصه للفرجه والتسليه كل يوم كأنه يشاهد مسلسلاً أو فيلماً .لا أحد يستطيع أن يعلم ماذا يدور في رأس "سالم" ولكن هذا هو ما يفعله كل يوم،يظل يتابع هذا المشهد ويقف هكذا ربع ساعة كامله حتى تدخل الفتاه إلى الحجره عندها ينطلق إلى البوابه ويفتحها ويسرع الخطى ليقف على ناصية الشارع بجوار محل العصير وينتظر وهو يتابع بعينيه الطريق كأنه ينتظر حدثاً مهماً .وبعد قليل تظهر الفتاه على باب عمارتها وتسير متجهه خارج الشارع ويسير "سالم"خلفها .وقبل أن تقفز إلى أي استنتاجات شريره بشأن "سالم"يظهر ذلك الفتى الذي كان يتحدث في هاتفه ويتابع النافذه المجاوره،يظهر وينضم للفتاه ويسيران سوياً حتى يصلا إلى موقف السيارات .يظل "سالم"يتابعهما وهما يتحدثان ويضحكان حتى يأتي "السرفيس"فيركباه ويبتعدا.عندها وأيضاً فجأه دون أي مراحل انتقاليه في الأفعال وردودها تجد "سالم"قد فقد كل أهتمامه وتركيزه وإبتسامته وأنطلق عائداً إلى منزله،أقصد إلى الجراج.
كيف عرف "سالم"ما يربط بين الفتاه والفتى؟كيف توصل إلى خروجهما معاً ولقاءهما؟لن تستطيع أن تدري ولكنه عرف بطريقة ما وظل يتابعهما كل يوم كأنه يتابع فيلماً قصيراً أو روايه ممثله على خشبة مسرح الحياه تتكرر بكل شخوصها وأحداثها كل يوم وهو المتفرج الوحيد الذي يشاهدها مجاناً .
يعود "سالم"للجراج ويراه "عم رزق" يدخل من البوابه السوداء الكبيره فيصيح فيه بأعلى صوته المبحوح :كنت فين يا وله..هو أنت كل يوم تغطس كده ..بتروح فين نفسي أعرف؟!...
يجيبه سالم بأشارات من يديه في كل أتجاه لا تعرف بالضبط إلى ماذا تهدف أو تشير وبعض الكلمات المتلعثمه الحروف تخرج من فمه بصوتٍ عالٍ يحاكي صوت والده وإن إختفت منه البحه المميزه لعم رزق :هو أنا ما أعرفش أخرج شويه من السجن ده..هو حرام يعني ولا أيه
- سجن ..طيب يا فالح أخرج زي ما أنت عايز بس خلص الشغل اللي وراك قبله..
يتجه سالم إلى الحجره وهو يبرطم بكلمات غير مفهومة ومازالت يداه تتحرك بعصبيه في كل أتجاه لا تدري أين تستقر كأنها تترجم ما بداخله من شعور لا يستطيع عقله أن ينقله كلمات تخرج على لسانه تعبر عن ما بداخله.
بدل سالم ملابسه بأخرى ملقاه على أرض الحجره يبدو أنه يخصصها فقط للعمل وتبدو من حالتها أنها قد أستهلكت لمدة قرن من الزمان أو يزيد .أتجه إلى صنبور الماء في الخارج ومعه جردل من الألومنيوم وملئه بالماء ووضع فيه بعض المساحيق ثم أمسك بقطعة أسفنج في يده ورمى بفوطه صفراء على كتفه وحمل الجردل وأتجه للعربات الواقفه في الجراج ليغسلها وينظفها قبل أن يأتي أصحابها لأستلامها .كان هذا هو عالم "سالم"اليومي والذي بدأه منذ خمسة سنوات كامله،كان أبوه يعمل حارساً على هذا الجراج منذ عشر سنوات وكان "سالم"مازال في بلدته في الصعيد يساعد أعمامه في زراعة القراريط البسيطه التي يملكونها .لم يدخل مدرسه أو يتعلم أي حرفه أخرى فقدراته العقليه المحدوده منذ صغره لم تشجع أهله على أي شئ تجاهه سوى إطعامه وإعطائه بعض الأعمال الصغيره التي لا تشكل أي خطر عليه ولكن "سالم"لم يكن يقنع بذلك،كان دائماً كغيره من الأطفال يحاول اكتشاف الجديد وكان يحمل شقاوه وطاقه يريد اخراجها ولا تكفيه تلك الأعمال الصغيره البسيطه في اشباع رغباته تلك كغيره من الأطفال فكان كثيراً ما يحاول الإتيان بأشياء تكون مصيبه في نظر الكبار من حوله ويقيمون الدنيا ويقعدونها ويعملون أكثر على حبس الصبي ومنعه من الخروج حتى لا يضر بنفسه أو بأحد .وقد حدث ذات يوم أنه تسلل من المنزل واتجه للساقيه حيث كان يعشق الجلوس عندها ساعات طويله يرسم على الأرض الطينيه الخصبه بعود من أعواد الشجر ويدندن بلحن قادم من أعماق نفسه هو،تارة يعلو به أو ينخفض وتارة يتوقف عن الغناء والرسم ويأخذ يحدق في لا شئ كأنه يعيش في حلم هو وحده الذي يراه ويرى شخوصه .ثم ما يلبث أن يعود لعالمنا وتعود معه الدندنه والرسم .في ذلك اليوم توقف عن الرسم وأخذ يتأمل الساقيه ودورانها كان يراها وهي تدور وتلك المدرجات فيها تمتلئ بالماء ثم تلقي بما تحمله في ذلك المجرى الصغير الذي ينطلق في الأرض الخصبه ليرويها .لا ندري بماذا فكر "سالم"في تلك اللحظه أو ما سبب تلك الفكره المجنونه التي راودته .لقد قرر أن يضع نفسه في إحدى تلك المدرجات ليدور مع الساقيه وبالفعل تسلق شجره ضخمه ومشى على غصنها القوي الذي يعلو الساقيه ثم ألقى بنفسه فوقها وأمسك بها جيداً وهي تدور وتتجه نحو المياه .غطس "سالم"مع الساقيه الدائره أسفل سطح الماء وهو مازال متشبثاً بها ثم عاد ليخرج للسطح ويدور معها دورتها الكامله ليغطس معها وهكذا .ظل على هذا الحال حتى شاهده فلاح من الفلاحين العاملين بالأرض،صرخ في أصحابه وأتجهوا للساقيه لإنقاذ "سالم".ظل "سالم"يصرخ وهو مازال متشبثاً بها بعد أن أوقفها الفلاحون عن الدوران ويرفض الأستسلام لأيديهم التي تريد ابعاده عنها وهم يظنون الفتى خائفاً مذعوراً من تلك التجربه لا يدرون أنه فرحاً بها يريد تكرارها وأستطاعوا في النهايه إنزال الفتى وأعاده أحد الفلاحين بصعوبه لبيته حيث أحتضنته أمه المسكينه وظلت تبكي على حظها وحظ ولدها .وهكذا ما كان يمر يوم وتغفل عنه تلك الأم إلا و"سالم"ينتهز الفرصه ليفعل شيئاً ما حتى مرت السنين وأصبح رجلاً كبيراً .حاولت أمه أن تزوجه من إحدى فتيات البلده حيث أوهمها أحد الدجالين بأن حاله سينصلح على يد فتاه جميله تتزوجه ولكن للأسف باءت كل محاولاتها بالفشل حتى قدم إلى البلده في إحدى الأيام رجل غريب مسكين ومعه ابنتيه اليتيمتين من الأم يطلب عملاً .أستأجره أحد الفلاحين في حقله وهكذا استقر الرجل في البلده هو وبناته،وانتهزتها الأم فرصه لتحاول تزويج احدى البنتين لإبنها على جهل من العروس وأبيها بحاله،واستعانت بالأب والأعمام في هذه الحيله بعد أن أقنعتهم بـأن صلاح الفتى سيكون في الزواج وبالفعل أثّر الأب والأعمام على الرجل المسكين الذي هلل فرحاً لأن إحدى ابنتيه ستتزوج ويرفع عن كاهله حملها .لم يكن يدري ما سيلقي بـابنته إليه ولم ينبهه أحد من البلده فلم يهتم أحد لأمر رجل غريب عنهم .وفي الليله الموعوده أكتشفت الفتاه أن زوجها"سالم"به شئ غير طبيعي، ولم يكتمل الزواج بليله أخرى،ففي الصباح تركت الفتاه بيتها وهرعت إلى أبيها وظلت تبكي له وهي غير قادره على وصف فجيعتها في الرجل الذي ظنت هي وأبيها أنه سيخلصها من همها وفقرها ويقدر لها حياه كريمه سعيده .شاع الأمر في البلده الصغيره وانتهى بطلاق الفتاه وتركها للبلده مع أبيها وأختها .لم يطق "عم رزق"المكوث في البلده بعد ذلك الحدث،لم يعد يطيق أبنه وما يصيبه منه من مشاكل وفضائح وقرر الهجره إلى مصر،طبعاً هو يعيش في مصر وليس محتاجاً للهجره إليها ولكن هذا هو الأحساس والتعبيرالذي يصف به أهل القريه والبلدان الصغيره تركهم لبلدهم وأتجاههم للقاهره للحياه فيها .إنه يهاجر لمصر ويقصد اللاعوده .ونفذ "عم رزق"كلامه وذهب بلا عوده،ولكن بعد خمسة أعوام لحق به "سالم"،جاء به أحد أعمامه وتركه لأبيه قائلاً أنهم لم يعودوا يستطيعون تحمله بعد اليوم وهو رجلاً ولا بد له من الأعتماد على نفسه،فليجد له أبوه عملاً يكتسب منه ويبعده عن المشاكل .وهكذا بدأت حياة "سالم"مع أبيه في مصر -أقصد القاهره-يعمل في هذا الجراج في مسح وتنظيف عرباته كل يوم وهذا كان يشغله معظم النهار فما أن ينتصف اليوم حتى يقبل عليه "عم رزق"بطبق من الفول وبعض الفلافل الساخنه وعيش طري ويجلسان للغداء وبعدها ينطلق "سالم"لعالمه الخاص .يجلس تحت إحدى الأشجار في الفناء الواسع ويمسك في يديه بإحدى الأعواد الملقاه ويأخذ في الرسم على الرمال ويدندن تلك الموسيقى الخاصه التي تعودها منذ أن كان طفلاً .ثم يتوقف عن الرسم ويسرح بخياله بعيداً لا ندري هل يعود بذاكرته إلى تلك الأيام في بلدته وهو طفل أم أنه ينطلق بها في المستقبل يبحث عن مكانٍ له فيه أم أنه فقط يغيب عن واقعنا دون أن ينشغل باله بشئ معين .ما يلبث أن يعود للرسم والدندنه ثم من بعيد يلمح الكلاب الأربعه تلهو مع بعضها البعض وتتقافذ فوق بعضها وتنبح ثم تجري هنا وهناك فيظل يتابعها وإبتسامه ترتسم على شفتيه بين لحظه وأخرى وقد تتحول إلى قهقهه إذا فعل أحد الكلاب شئ يظن هو أنه يستحق الضحك الكثير .
قبل حلول المساء يخرج"سالم"ليتجول في الشوارع .يسير على قدميه مسافات طويله،يتأمل كل ما حوله،ينحرف يميناً ويساراً ويبتعد ويبتعد لكنه في النهايه يعود إلى بيته،إلى الجراج دون أن يفقد طريقه أو يتوه عنه،وفي عقله ماذا يدور ...لا تدري.إنك تشعر فقط أنه يتأمل كل ما حوله ومن حوله كأنه يدرسهم أو كأنه يتفرج عليهم .أبطال في روايه يشاهدها من خلف عدسات عينه ويترجمها كما يريد وقد تهديه الفطره إلى حقيقة ما في داخل الأشياء والناس وقد لا.ولكن من يهتم،إنه فقط يتسلى،هذا هو عالمه الخاص.....عالم "سالم"الذي يعيش فيه منذ الصباح حتى المساء،ثم يعود للنوم أسفل ذلك السرير في تلك الحجره في ذلك الجراج من ذلك الحي في تلك المدينه الكبيره المسماه القاهره.
ولإن سنة الحياه أن لا شئ ثابت فيها وأن الكل متغير فقد جاء يوم مختلف،يوم أستيقظ فيه "عم رزق"ليجد "سالم"قد أختفى ..ليس أسفل السرير وليس في الجراج وليس في الحي كله والباب الأسود الكبير مفتوح على مصرعيه .أين "سالم"....لا أحد يدري .ظل الجميع يتسأل حتى الكلاب الأربعه كانت تدور حول مكانه المفضل عند الشجره وهي كأنها تسأل نفسها اين ذهب "سالم".ولكن "سالم" اختفى،لم يكن له وجود،ولم يدري "عم رزق"ماذا يفعل ولكنه اكتشف شيئاً ربما لم يكن قد أكتشفه من قبل،إنه يحب "سالم"،يحبه فعلاً ويخاف عليه ويشتاقه.لقد ظن أنه يكرهه بسبب حاله الغير طبيعي ولكنه الآن أكتشف حبه له،الآن فقط بعد أن أختفى "سالم".أين هو؟ لا أحد يدري .ومرت الأيام والشهور ولا أثر ل"سالم".وفي إحدى الأيام بعد ما يقرب من عام سمع "عم رزق"دقات رقيقه على الباب الأسود الكبير.لم يكن يعتاد على هذه الدقات الرقيقه حتى أنه ظنه الهواء يضرب الباب فيحدث صوتاً كالطرق فهو دائماً معتاد على الطرقات الغليظه المتسرعه التي تهم بكسر الباب لتلحق يومها......ولكن الطرقات تكررت فاتجه "عم رزق"للباب يفتحه ووجد أمامه فتاة البلكونه تبتسم.عرفها من كثرة ما رآها تدرس في بلكونتها وإن لم يعرف تلك العلاقة بينها وبين ابن الجيران كما عرفها "سالم".نظر لها متعجباً فهي لا تملك عربة في ذلك الجراج أو أي من أهلها .كانت تمسك بمجلة مصورة في يدها،قالت له وهي تبتسم:متهيئ ليه أني عرفت ابنك "سالم"فين يا "عم رزق".
فتحت المجلة وهي تعطيها إياه وتقول:مش هيه دي صورته؟!!!!
طالع "عم رزق"المجلة،نعم كانت صورة"سالم"ولكنه كان مختلفاً في بذلته الأنيقه تلك وشعره المرتب ووجهه الحليق..قالت الفتاه:المجلة بتقول أنه حصل على جايزه الأبداع في الرسم من إحدى المؤسسات الخيريه..مكتوب إسم المؤسسه وعنوانها ...ممكن نسأل عنه هناك.
لم يفهم "عم رزق"شيئاً مما قالته ولكن كل ما فهمه أنه أخيراً سيستطيع الوصول لابنه،وبالفعل وصل "عم رزق"لابنه ورآه.كان "سالم"جالساً ليرسم،معه الألوان والفرشاه وأمامه اللوحه البيضاء قد أمتلأت عن أخرها بباب أسود كبير ولكنه كان مفتوح عن آخره........وقفله مكسور............
كتبت لأول مرة في مارس 2001
0 comments:
إرسال تعليق